جاء ملكُ الموت إلى موسى صلى الله عليه وسلم، فلما رآه موسى لطمه لطمة كما في صحيح البخاري، فرجع ملك الموت إلى ربه جلَّ وعلا، وقال: {يا ربِ، أتيتك من عند عبدٍ لا يريد الموت، فقال الله تعالى: اذهب إلى موسى فقل له: ضع يدك على متن ثور؛ فإن لك بكل ما غطت يدك -بكل شعرة- سنة، فرجع ملك الموت إلى موسى، وقال له: ربك يقول لك: كذا وكذا، فقال له موسى صلى الله عليه وسلم: ثم ماذا بعد هذا العمر الطويل؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن} وإذا لم يكن من الموت بدٌ فمن العار أن تكون جبانا فمادام أن الموت لابد منه، فالآن، ثم دعا ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة رميةً بحجر، فمات هناك!! فالموت هو أعظم الشدائد، حتى إن عمرو بن العاص رضي الله عنه -كما في مستدرك الحاكم وغيره وسنده جيد- لما حضره الموت كان عنده ولده عبد الله فقال له: [[عمرو: بايع، قلت: يا رسول الله! أريد أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قال: أريد أن أشترط أن يغفر لي، قال: بايع فإن الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها، والهجرة تجب ما قبلها -أو قال الحج- قال: فبايعته، فوقع حبه في قلبي، حتى إني ما كنت أستطيع أن أنظر إليه صلى الله عليه وسلم، إجلالاً وإعظاماً له، فلو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، قال: ثم ولينا أشياء لا أدري ما حالي فيها]] يعني تولى أمور الخلافة والمشاركة في أحوال القتال، والإمارة وغيرها من الأشياء التي يخاف من عواقبها، ولا يدري ما حاله فيها، إلى آخر الخبر.
المهم أن حالة الموت وساعة الصفر كما يقال: من أحرج المواقف، فمن هو الذي سوف يسعفك؟ يقول الله في القرآن الكريم: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:83-87] .
فهذا تحدٍ، إذا كنتم لا تؤمنون بالجزاء والحساب، وتظنون أنكم لن تدانوا ولن تحاسبوا يوم القيامة، فارجعوا الروح إلى الجسد، فارجعوها إن كنتم صادقين، وهيهات!! فالله وحده هو الذي يمكن أن يسعفك وينقذك، فيلطف بك، ويرأف بك في هذا الموقف العسير، وينزل عليك من السكينة والجود ما يجعلك تموت وأنت قرير العين، وفرح بلقاء الله: {من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه} فالمؤمن يموت بعرق الجبين، ويموت وهو يتهلل، ويقول كما قال بلال: غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه ويموت وهو يقول كما قال حذيفة وغيره: [[أعوذ بالله من يوم صبيحته إلى النار، لا أفلح من ندم.
الحمد لله الذي سبق بي الفتنة]] .
فيحمد الله أن توفاه قبل أن يفتن في دينه، ويموت وهو يقول كما قال بعض المحتضرين، وقد أخبروه بأنه قد يُئس من شفائه وعلاجه، فقال أبياتاً يودع بها من حوله، ويذكر بها ربه، ويشكره على نعمائه وجوده وكرمه، وهي أبياتُُ طويلة منها قوله: أهاجك الوجد أم شاقتك آثارُ كانت مغاني نعم الأهل والدارُ وما لعينك تبكي حرقةً وأسىً وما لقلبك قد ضجت به النارُ هيهات يا صاحبي آسى على زمنٍ ساد العبيد به واقتيد أحرارُ أو أذرفُ الدمع في حبٍ يفاركني أو في اللذائد والآمال تنهارُ أَمَتُّ في الله نفساً لا تطاوعني في المكرمات لها في الشر صرارُ وبعت لله دنياً لا يسود بها حقُ ولا قادها في الحكم أبرارُ وإنما جزعي في صبيةٍ درجو غُفلٍ عن الشر لم توقد لهم نارُ قد كنت أرجو زماناً أن أقودهم للمكرمات فلا ظلمُُ ولا عارُ واليوم سارعت في خطوي إلى كفنٍ يوماً سيلبسه برٌ وكَفَّارُ بالله يا صبيتي لا تهلكوا جزعاً على أبيكم طريق الموت أقدارُ تركتكم في حمى الرحمن يكلؤكم من يحمه الله لا توبقه أوزارُ وأنتمُ يا أُهيل الحي صبيتكم أمانةٌُ عندكم هل يهمل الجارُ فيموت وهو يحمد الله، وهو يشكر الله، أهذا خيرٌ أم من يموت والعياذ بالله على شر حال، كما قيل: إن أحدهم حين حضرته الوفاة قال لأخيه: هات لي المصحف، وكان رجلاً مسرفاً على نفسه، شديد الوقيعة في الدين وأهله، ضالاً منحرفاً، ففرح أخوه، وقال: لعله أن يتوب، فأسرع وأحضر له المصحف، فلما أعطاه المصحف، قال: هذا هو المصحف، قال: نعم: قال: أشهدك أني كافر بهذا الكتاب، ثم لفظ روحه والعياذ بالله فجلس أخوه شهوراً وهو مريضٌ وما به مرض؛ مما علم من سوء حال وخاتمة أخيه نسأل الله السلامة والعافية.
فأنت مقبلٌُ على شدائد في الحياة ولابد، وأنت محتاج فيها إلى الرب الرحيم الكريم الجواد، فأكثر من ذكره، وأكثر من شكره، وأكثر من الثناء عليه، وحَمْدِه ومدحه، واعتبر أن من أعظم القربات التي تتقرب بها إلى الرب جل وعلا هي ترديد أسمائه الحسنى وصفاته العليا والثناء عليه والغضب له، فتغضب له أشد مما تغضب لنفسك؛ فلو أن أحداً سبك أو شتمك، فإنك ستغضب له أشد مما تغضب لقبيلتك؛ لو أن إنساناً نال من قبيلتك وعشيرتك، وتغضب له أشد مما تغضب لبلدك لو أن أحداً تكلم في بلدك.
فأسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم ممن يحبهم ويحبونه، وأسأل الله تعالى أن يشرح قلوبنا جميعاً بذكره وشكره.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم اجعلنا ممن يذكرونك كثيراً، ويسبحونك كثيراً، إنك كنت بنا بصيراً.
اللهم اهدنا إلى سواء السبيل، آمنا بالله وتوكلنا على الله، وفوضنا أمورنا إلى الله، لا إله إلا الله.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.
والحمد لله رب العالمين.
نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم، ونسأله بمنه وكرمه ألا يرد هذه الدعوات الحارة، وهذه الصرخات المؤمنة، ونسأله سبحانه أن يفتح لها أبواب السماء، وأن يستجيب لنا، إنه على كل شيء قدير، وهو بالإجابة جدير، وهو القائل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] .