Q هنالك سؤال له شقان فيما يتعلق بتدريس العلماء في المساجد: فمنهم من يركز تركيزاً واضحاً على الفقه على حساب علوم أخرى كالقرآن مثلاً، إضافة إلى أن تدريس الفقه لا تراعى فيه -في الغالب- مسائل الواقع، بل قد تجد أن بعض المسائل في المعاملات لا وجود لها الآن، فما هي الطريقة المثلى في تدريس هذا الجانب؟ والجانب الآخر: بالنسبة لتدريس القرآن الكريم، هنالك تقصير في هذا الجانب، ولكن إذا درس ربما ركز على المسائل الشرعية واللغوية والبيانية في القرآن الكريم، بينما نادراً ما تجد من يناقش معاني القرآن، ويربطها ربطاً شرعياً وربطاً روحياً بواقع الناس، فما هي الخطط التي تقترحونها في هذين الجانبين؟
صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالفقرة الأولى، وهي: قضية العناية بتدريس الفقه.
فأعتقد أن هناك مسوغاً واضحاً، وهو أن الفقه يتعلق بأحكام تفصيلية يحتاجها الناس، فإن جمهور الناس غالباً ما يسألون عن تفاصيل حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في مسائل يعانونها في واقع حياتهم.
ولهذا يكون هناك اهتمام وعناية، هذا فضلاً عن كثرة مسائل الفقه وكثرة الفروع، مما يحتاج إلى وقت وإلى فترة طويلة في ضبطها وحفظها ودراستها، فهذا جانب.
ولكن هذا -بلا شك- لا يسوغ بحال من الأحوال، أن يغلب جانب الفقه بمفهومه الاصطلاحي، الذي يعني المسائل الفرعية، على الفقه بمفهومه الشرعي الأصلي السلفي، الذي هو الفقه في الدين حقيقة، أصولاً وفروعاً: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} كما في المتفق عليه، ومن التفقه في الدين معرفة القرآن، ومعرفة السنة إلى غير ذلك.
أما فيما يتعلق بربط الفقه بمسائل الواقع، فهذه -فعلاً- مشكلة، ولا بد من العناية في ربط الفقه بمسائل الواقع بقضايا كثيرة، تبدأ بقضية الناحية المنهجية، وترتيب المواد، وطريقة عرضها، فإن كانت كتابة، فبوضع عناوين فرعية وترقيم، إلى غير ذلك.
وأيضاً تمر بالأسلوب وباللغة، فإن اللغة التي يفهمها الناس اليوم حتى طلاب العلم، غير اللغة التي هي موجودة في بعض الكتب الفقهية، فتحتاج إلى نوع من مراعاة الواقع، ومستوى الناس في اللغة، وتقريب هذا الأمر إليهم، وتنتهي بالمضمون.
فمثلاً: علاج القضايا المستجدة من أهم المسائل، وليس صحيحاً أن يهتم الناس بقضايا لا وجود لها -الآن- من الناحية الفقهية، ويغفلوا عن مشاكل، أو ما يسميها الفقهاء بالنوازل والحوادث التي طرأت الآن واحتاج الناس إليها، وهي كثيرة، في مجال الاقتصاد، وفي مجال الاجتماع، وفي مجال المعاملات، وفي المجالات الدولية وفي غيرها، وتحتاج إلى رأي أو اجتهاد شرعي ناضج فيها.
كما أن الناس يحتاجون من خلال تدريس القضايا الشرعية، سواء كان فقهاً أم أصولاً، أم تدريس القرآن الكريم نفسه -كما أشرت في سؤالك الآخر- يحتاجون إلى ربط هذا العلم بالواقع.
فأنت عندما تقرأ للغزالي، أو تقرأ للجويني أو تقرأ لـ ابن قدامة في كتبهم الأصولية، أو غيرهم من العلماء، تجد أن الأمثلة التي يضربونها أمثلة منبثقة من صميم الواقع الذي يعيشونه، ولذلك كانوا يعيشون الواقع حقاً، ويضعون الأمثلة للطلاب من واقعهم، لكننا نحن نردد نفس الأمثلة التي ذكروها، والواقع أنه ينبغي أن تكون هناك أمثلة من واقع الحياة، بحيث يربط الطالب بالحياة، ويعرف أنه يتعلم ليعلم وليدع الناس، وليغير واقع الناس إلى ما يرضي الله تعالى، وليس لمجرد العلم.
أما فيما يتعلق بالقرآن، فلا شك أن التقصير وهجران القرآن على كافة المستويات موجود، وإذا درس القرآن فقد يدرس -أحياناً- لكن يغلب على ذلك طابع العناية بالمسائل الشرعية واللغوية والبيانية كما أسلفت.
أما الحل في نظري، فأعتقد أن من أهم ذلك، هو ما أسلفته من محاولة ربط معاني القرآن الكريم بواقع الناس، لأن القرآن نزل هكذا، حيث نزل منجماً بحسب الوقائع والأحوال، وكان يعالج قضايا يحتاجها الناس.
فعندما تأتي امرأة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] .
ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها لما سألها سائل: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: {ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: كان خلقه القرآن} .
فكان القرآن في واقع الناس هو الذي يحرك واقعهم، ويسير واقعهم، أما الآن فقد اكتفى كثير من الناس بأن القرآن يستفتح به في المجالس، وفي الندوات، وفي المناسبات، وفي الإذاعات، عن أن يكون مسيراً لواقع الفرد والجماعة والدولة.
وبالتالي صارت دراسة القرآن -سواء كانت تأليفاً، أم دراسة في المساجد- يغلب عليها هذا الطابع، ولعله يكون هناك دروس -إن شاء الله- تحاول أن تصحح هذا الأمر، وتحاول أن تجمع بين الفهم الصحيح للقرآن المبني على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرح القرآن وفسره بسنته، فالسنة تفسر القرآن، ومع ذلك يربط هذه الأشياء بواقع الناس.