فإذا عجز الشيطان من الإنسان عن طريق الرياء والعجب والغرور والزهو، انتقل إلى المرحلة الرابعة: وهي أن يشغل الإنسان عن عبادته، فإذا عصى الإنسان الشيطان وعبد الله تعالى، وتخلص من العجب، وعرف قدر نفسه، وعرف أن كل نعمة عنده فهي من الله، فما ينبغي للإنسان أن يعجب؛ لأنه إذا كانت النعمة من الله، فمن واجبك أن تشكر هذه النعمة، لا أن تغتر بها، لأنه لو خلق الإنسان منا غبياً، لما استطاع أن يكون ذكياً، ولو كان دميماً لما استطاع أن يكون جميلاً، ولو خلق فقيراً لما استطاع أن يكون غنياً، فكل نعمة عندك من الله فما ينبغي لك أن تغتر بها، بل أن تدرك أنها مسئولية عليك، ولذلك يقول الشاعر: إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر فكيف أقوم الدهر في بعض حقه وإن طالت الأيام واتصل العمر أي: إذا قمت بشكر النعمة، فهذا الشكر نفسه نعمة جديدة تحتاج إلى شكر جديد، وهكذا تنتقل من شكر إلى شكر إلى شكر، حتى تموت وما أديت شكر نعمة الله، فهذا الشكر جعل الإنسان يرفض وسوسة الشيطان في موضوع العجب والغرور.
ثم ينتقل الشيطان إلى المرحلة الرابعة، وهي أن يشغل الإنسان عن عبادته، فإذا دخل الإنسان في الصلاة، بدأت المعركة مع الشيطان، وهذا دأبه، وكلنا نشتكي من هذا الأمر، ونطرحه في مجالسنا ونشتكي منه، ونتكلم فيه، ولكننا واقعون فيه، وهذه من الأمور التي يقال فيها: إن عند الإنسان علماً بها، لكنه لم يستفد من علمه، وعند الإنسان معرفة لكنها معرفة عقلية مجردة، كلنا ندخل في الصلاة، فنكبر، ولا ننتبه إلى الصلاة إلا بالتسليم، وقد بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري قال: {إن الشيطان إذا أُذن للصلاة أدبر، وإذا انتهى الأذان جاء، فإذا أقيمت الصلاة أدبر، فإذا انتهت الإقامة جاء حتى يحول بين الإنسان وبين صلاته، يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا لما لم يكن يذكر} .
وفي هذا المجال قصة، وهي أن رجلاً جاء لـ أبي حنيفة وقال له: إني نسيت كذا وكذا -وضع شيئاً في مكان ونسيه- فقال له أبو حنيفة: صلِ عشر ركعات، وسلم من كل ركعتين، وسبح واستغفر، ولن تتم العشر إلا وقد عرفت أين وضعت الشيء، فلما قام هذا الرجل صلى الركعتين الأوليين، ثم اتنفل من صلاته -انصرف من صلاته- وجاء إلى أبي حنيفة ودعا له، وقال: جزاك الله خيراً، وصية ناصح، قال: لماذا؟ قال: إني قد ذكرت هذا الشيء، فضحك أبو حنيفة رحمه الله، وقال: هذا الشيطان اللعين، عرف أنك سوف تصلي عشر ركعات، فأحب أنه يذكرك بالأمر قبل أن تتم العشر، وبعد أن صليت الركعتين ذكرك بهذا، ليقطع عليك بقية الركعات التي أمرتك بأدائها.
فهذا أمر كلنا يعلمه، ولذلك لو استطعنا أن نخلص بمجاهدة الشيطان في هذه الأمر، لحصلنا من وراء ذلك خيراً كثيراً، وفي الحديث الصحيح: {من توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه} والرسول صلى الله عليه سلم صلى ذات يوم وكان في قبلته ستارة فيها تصاوير، فقال لـ عائشة رضي الله عنها: {أميطي عنا قرامك هذا، فإن تصاويره لم تزل تعرض لي في صلاتي} .
ولما أهدي له أبو جهم أنبجانية وكان فيها أعلام وخطوط، فلما انتهى من الصلاة خلعها، وقال: {اذهبوا بأنبجانيتبي هذه وأتوني بأنبجانية أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي} فيجب على المصلي أن يحرص ما استطاع على أن يستحضر قلبه في صلاته، ووسائل استحضار القلب في الصلاة كثيرة، ليس هذا مجال ذكرها والحديث عنها، ويمكن للإنسان أن يرجع إلى كتاب مختصر منهاج القاصدين أو كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، فإنه يجد فوائد في ذلك.
وبمناسبة ذكري لكتاب إحياء علوم الدين للغزالي، أقول: إن هذا الكتاب مفيد جداً في هذا الباب، لكن يجب أن يكون قارئه على حذر شديد، فالكتاب مليء بالأحاديث الضعيفة والموضوعة والمكذوبة، ومليء بخرافات الصوفية التي سيطرت على الأمة الإسلامية في وقت من الأوقات، وهي سقطات كبيرة وخطيرة أيضاً ليست بالبسيطة، أما في مجال ترقيق القلوب والمعاني الإيمانية فإنه مفيد، فإذا انتبه الإنسان إلى هذه المزالق التي أشرت إليها، استفاد منه، وإلا فليدعه وليستفد من غيره من الكتب.