أولها: عدم تحديد الأهداف بدقة، وهذه مشكلة يعانيها المسلم على المستوى الفردي، وعلى المستوى الاجتماعي، ففي تصور كثيرٍ من الدعاة إلى الله عز وجل، أن الهدف يتلخص فيما يسمونه بالحل العسكري، حركة جهادٍ تقوم هنا أو هناك لمجاهدة الكافرين والظالمين والقاسطين، ثم بعد ذلك تقوم دولة الإسلام، وتبدأ ببسط سلطانها وهيمنتها على الأرض، ولاشك أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، ولاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة والتي تليها كما بين السماء والأرض، أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله} ولاشك أيضاً أن الجهاد شريعةٌ ماضيةٌ إلى قيام الساعة، لا يمنعه فجور الفجار ولا ظلم الظالمين ولا قسط القاسطين؛ ولكن الإسلام دينٌ مهيمنٌ على كل شيء، والجهاد يجب أن يكون في جميع الاتجاهات، والجهاد يجب أن يكون في كل ميدان.
ولا بد هنا من التخصص في جميع المجالات، فمثلاً: في مجال التخصصات الشرعية، فلاشك أن العلماء والفقهاء الشرعيين هم الكواكب الذين تسير الأمة على هديهم، وتقتبس من نورهم، ويوم تغيب هذه النجوم، فإن الأمة تتيه في صحراء لا هادي فيها ولا دليل لها، ولذلك فإن التخصص في مجال الدراسات الشرعية من ضمن الأهداف التي يجب أن تضعها الأمة في قائمة الأولويات، وذلك بأن ينبري وينبعث من بين شباب الأمة وشباب الصحوة طائفة كما قال تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] .
والتخصصات العلمية الأخرى: كالطب والهندسة والعلوم والاقتصاد، كل هذه تحتاجها الأمة، وتحتاج إلى متخصصين فيها، وتحتاج الدعوة إلى كوكبةٍ من المتخصصين يصدقون ما يقوله العالم الشرعي، فإذا قال العالم الشرعي: الكلام والحكم كذا وكذا وكذا، قال له الطبيب: صدقت، وقال له المهندس: صدقت، وقال له الاقتصادي: صدقت، وقال له المتخصص في كل مجالٍ: صدقت، حتى ليقول العلماني، عدو الإسلام حين يرى أن الأصوات تنادت عليه من كل مكان، تؤيد وتصدق ما قاله عالم الشرع، حتى ليقول كما قال أبو جهل: هذا أمر دبر بليل.
خذ مثلاً حين يتكلم العالم عن خطر الزنا، يستطيع أن يأتي بالنصوص الشرعية والأحاديث النبوية، ويفيض في ذلك ويبين عواقبه في الدنيا والآخرة، وما ورد في ذلك، حتى أن المؤمن بالله واليوم الآخر يقشعر بدنه ويخاف، لكن هناك الكثير من الناس لم يصل إليهم هذا الكلام، ولم يصل إلى قلوبهم، فنحتاج حينئذٍ إلى طبيبٍ يصدق كلام العالم، فيقوم يتحدث -مثلاً- عن الأمراض الجنسية: الهربز، والإيدز، والكلاميبيا، وغيرها من الأمراض الجنسية الفتاكة التي أصبحت إحصائياتها ترعب أكفر الناس وأكثرهم طغياناً وصفاقةً ووقاحةً وجرأةً على الله تعالى، تجد الطبيب يقوم فيصدق كلام هذا العالم من خلال ميدانه في الطب، ومن خلال معلوماته واختصاصاته.
مجالٌ آخر: وهذا مثالٌ قد يكون قريباً من واقعنا ويمسنا كثيراً، قضية الجن أو العين -مثلاً- هذه القضية قد يجلس العالم زماناً طويلاً يقنع بها كثيراً من الناس فيقتنعون، وقد يكون من بينهم من لا يزال في قلبه حُسيكة، بل قد يكون منهم من لم يسمع هذا الكلام، وقد يتعلق بأقاويل لبعض المنسوبين إلى العلم في مثل هذه الأمور، لكن ما رأيك حين يقوم الطبيب من خلال ميدانه وعمله ومرئياته ومختبراته، ليصدق كلام هذا العالم، ويحقق بعدما يقوم بكشوف وتحريات على هذا المريض، فيقول له: كل هذه التحاليل والكشوف كلها أثبتت أنه ليس فيك مرضاً عضوياً يمكن أن يخضع للتحليل والطب البشري، فبقي عليك الطب الشرعي، فتلجأ إلى الرقية وإلى القراءة وإلى الذكر وإلى الأوراد الشرعية التي تستعيذ بالله من خلالها، من شر شياطين الإنس والجن، فكم يكون وقع مثل هذا على نفسية المريض؟! بل على نفسية المجتمع كله؟ وقل مثل ذلك من الناحية العملية فقد، يتحدث العالم طويلاً، عن قضية خطورة الاختلاط والتبرج، ووجوب التستر وما أشبه ذلك بكلام قوي مدعم بالدليل من الكتاب والسنة وأقوال السلف والآثار، وفيه مقنع لمن أراد القناعة، لكن مع ذلك يبقى الواقع واقعاً مريراً، فإذا جاء الواحد منا إلى مستشفى، أو إلى مستوصف أو ميدان أو مختبر أو جامعة أو كلية، ووجد فيها من ألوان الاختلاط الشيء الكثير الذي لا قبل له به، فنظل نقلب أيدينا ونقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، لكن من خلال وجود هؤلاء المتخصصين، الذين نذروا أنفسهم في كل ميدان، واعتبروا أنفسهم مصدقين لكلمة الشرع، نستطيع أن نغير هذا الواقع تغييراً عملياً، فإذا قال عالم الشرع كلمته في تحريم الاختلاط -مثلاً- أو تحريم التبرج والسفور، وجدنا أنه ينبري كوكبة من الأطباء ليقوموا عملياً بفصل تطبيب الرجال عن تطبيب النساء، فهذه كوكبة من الأطباء أفلحت ونجحت في تكوين وإقامة مستشفى خاص بالنساء، طاقم المستشفى من ألفه إلى يائه طاقم نسائي، ويثبت للناس عملياً أن هذا ممكن وليس مستحيلاً، وكيف يكون مستحيلاً في بلاد الإسلام ونحن نعرف أنه في بلاد الغرب أصبح واقعاً عملياً، جامعات مخصصة للنساء، وفنادق مخصصة للنساء، ومستشفيات خاصة للنساء، هذا في أمريكا وبريطانيا وألمانيا، وأخبار تقرءونها في الصحف، فيصدق المتخصص في أي مجالٍ ما يقوله عالم الشرع ويطبقه تطبيقاً عملياً.
وقل مثل ذلك في مجال الاقتصاد فكم يتحدث العالم عن الربا، وخطر الربا، وضرر إقامة الاقتصاد على الربا، وخطر التفاوت الكبير بين الطبقات في توزيع الثروة، ووجوب العدل، وتحريم الظلم، إلى غير ذلك، لكن يبقى الواقع في بعض الأحيان وفي بعض المجالات يبقى الواقع بعيداً عن ذلك، لكن نحتاج مع ذلك إلى من يصدق كلام هذا العالم ويحوله، لأنه ليس صحيحاً أن نتوقع أن العالم الشرعي بيده كل شيء، يكفي في مهمة العالم الشرعي أن يبين لنا هذا الطريق، ثم نحن نسير وراءه، فيبقى دور المتخصص في الاقتصاد، أن يبين من خلال الدراسات والتحاليل والتقارير الواقعية المبنية على أوضاع العالم الغربي، والبنوك وغيرها، والألاعيب الاقتصادية، أن يثبت صدق ما قاله هذا العالم في واقع الناس، وأنه لابد من أن نقيم اقتصادنا على الأسس الإسلامية، وأن نخلصه من لوثة الربا، التي ما كانت في شيءٍ إلا أفسدته.
وكذلك في مجال الاقتصاد أقول: لابد من التوبة النصوح من الإسراف في تحذير الناس، من الحرص على المال، وترغيبهم في الوظائف، فقد أسرفنا كثيراً في تحذير الناس، من الاشتغال بالتجارة، ونسينا (نعم المال الصالح للعبد الصالح) وركزنا على قضية خطورة المال، وأنه قد يكون سبباً لانحراف الإنسان وفساده وظلمه وغفلته وانشغاله عن الدعوة، أسرفنا في ذلك كما أسرفنا في إغراء الناس بأن يتعلقوا بالوظائف، ويركزوا عليها ويغفلوا عما عداها.
وفيما يتعلق -أيضاً- بالاختصاص، ضرورة الاختصاص نلحظ أن كثيراً من الشباب المتدين، أرادوا أن يحطموا خرافة الصراع بين الدين والعلم التي كانت موجودةً في أوروبا، فدخلوا في الكليات وفي الطب وفي الهندسة وفي العلوم وفي كليات تكنولوجيا الحاسب الآلي إلى آخره، ولكننا بعد ذلك نتساءل: هل نجحنا فعلاً في إقناع الناس بالقضاء على هذه الأسطورة؟ أم فشلنا فوجدنا أننا بعد ذلك نهرب من بعض المجالات وبعض التخصصات؟ تحت عقدة الخوف من الفشل أو الشعور بأننا نسير في طريقٍ مسدود، أو أننا يجب أن نتجه اتجاهاً آخر؟ وأحياناً تقرأ -مثلاً- أن هناك نقابة للأطباء المسلمين، كم عدد أعضاء هذه النقابة ثلاثون ألف -مثلاً- في إحدى الدول، وهؤلاء الثلاثون ألفاً من الأطباء المسلمين ماذا فعلوا لأمة الإسلام؟! ماذا فعلوا للدعوة؟! من المؤسف أن تقول الإحصائيات: إنه ما بين (30% إلى 50%) من هؤلاء يعيشون في بلاد الغرب، ومعنى ذلك أن جهودهم وتخصصاتهم وإبداعهم هو يصب في خدمة صحةِ وعافيةِ الكفار، وأن الأمة الإسلامية قد خسرت هذه الطاقات الهائلة الجبارة المتخصصة، هذا جانبٌ فيما يتعلق بالتخصصات العلمية.
جانبٌ آخر في قضية التخصصات العملية، مثلاً: محو الأمية، سواء أمية الحرف، أي: القراءة والكتابة، أم أمية الفكر والعلم، وذلك من خلال محو أمية الناس في عقائدهم بحيث يتعلمون مبادئ العقيدة الإسلامية الصحيحة، ومحو أمية الناس في معرفة الأحكام الشرعية التي لابد لهم منها، ومحو أمية الناس في تعليمهم مبادئ التفكير الصحيح، وفي بعض الدول تحتفل منذ سنوات بمرور عشرات السنين على نهاية آخر أمي في تلك الدولة، وفي بعض البلاد الإسلامية لا تزال نسبة الأمية فيها تصل أحياناً إلى (80%) ، ماذا فعلنا لمحو أمية المسلمين؟! ما هو المانع من أن ينبري مجموعة من الدعاة، فيذهبوا إلى تعليم المسلمين مبادئ القراءة والكتابة، وقِصار السور، ومبادئ العقيدة الإسلامية في أي مكان؟ ونعتبر أننا بذلك قدمنا خدمة جليلة للدعوة الإسلامية.
وهناك -أيضاً- تخصص عملي آخر، وهو قضية توفير القوت لما يسمونه بالعالم الثالث، بل هناك ما يسمى بالعالم الرابع، أو ما يسمى بحزام البؤس، حيث يموت كثيرٌ من المسلمين من الجوع، في مناطق كثيرة، وأكثر الشعوب التي تموت من الجوع من الأمة المسلمة!! ما هو المانع أن ينبري كوكبةٌ من الدعاة في التخصص في توفير لقمة العيش للمسلمين؟ ومن خلال لقمة العيش نقدم إليهم الدعوة؟ وهل كتب على المسلمين ألا يتخصصوا في توفير الغذاء والكساء، والصحة والتعليم، وأن يتخصص في توفير ذلك المنصرون، وذلك من خلال جهودهم ومؤسساتهم وأموالهم الهائلة، لاشك أننا يجب أن نحطم ذلك، ونبين أن المسلمين يجب أن يكونوا أحق بذلك، وهؤلاء هم إخوانهم، وفي هذا وذاك لابد من الإحسان والنجاح، حتى نضمن للإسلام أرضيةً خصبةً تسيرُ الأحداث بقوة، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه} والحديث رواه البيهقي وغيره وسنده حسن، يتقنه ليس فقط من أجل الصنعة، بل يتقنه لوجه الله عز وجل، وليس فقط من أجل أن يأخذ الناس عنه انطباعاً حسناً، أو حتى لا ينفض من حوله المشترون أو الرواد، بل هذه الأهداف تأتي تبعاً، لأن المؤم