نقطة أخرى تؤثر في نظرنا للماضي، وبالتالي في نظرتنا للمستقبل، وهي قضية التعتيم على الماضي، وعلى أحداثه وأوضاعه، سواء التعتيم على المستوى الرسمي، أو التعتيم على المستوى الدعوي، في كثيرٍ من الأحيان، لابد من الاعتراف بالخطأ، والاعتراف بالخطأ فضيلة، وليس يعيب الإنسان أياً كان موقعه -سواء كان مسئولاً أو حاكماً داعية أو عالماً- أن يعترف بخطئه، ويقول: إن الأمر كان كذا وكذا، وفي تصورنا كذا وكذا، وجاءت النتائج مخالفة لما كنا نتوقع، هذا لا يضر، ومن هو الذي لا يخطئ؟! الذي لا يخطئ هو الذي لا يعمل، أما الذي يعمل فلابد أن يقع في الخطأ، وقضية نقد الذات، ونقد النفس لابد منها، كم واحداً منا يملك الشجاعة فينتقد نفسه أو ينتقد واقعه أو تاريخه أو ماضيه، وبالتالي يملك أن يراجع مسيرته؟ يراجع الأوراق ثم يصحح الأخطاء، لابد من الرجوع إلى التفسير الشرعي للأحداث، وأحب أن أضرب لكم بعض الأمثلة.
مرت الدعوة الإسلامية في تاريخها القريب بمحنٍ كثيرة في معظم البلاد الإسلامية، ومن خلال هذه المحن زج بالدعاة في غياهب السجون، وعلق جماعة منهم على أعواد المشانق، وشرد منهم من شرد، وأصبحت أحداثهم أحداثاً دامية، يرويها التاريخ في مصر، وفي بلاد الشام، وفي فلسطين، وفي الفلبين، وفي مناطق كثيرة جداً، ولا يكاد يوجد بلد إسلامي إلا وتعرض الدعاة فيه إلى محنة، بل إلى محن، كيف ننظر إلى هذه المحن التي ابتلينا بها، كثيراً ما نخرج من المسئولية بأن نقول: إن هذا ابتلاءٌ وامتحان، وقد وعد الله تعالى من يكون على الطريق الصحيح، أن يبتليه ويمتحنه، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [التوبة:16] إلى غير ذلك من الآيات، ثم نخرج وكأن المحنة ما هي إلا ابتلاءٌ وتمحيصٌ محض، وليس لنا فيها يد، وهذا جزء من الواقع صحيح لاشك فيه، لكننا غفلنا عن الجزء الآخر المتعلق بمسئوليتنا نحن عن قضية المحنة، قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:11] وفي الآية الأخرى قال تعالى: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] وفي الآية الثالثة قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] .
إذاً: المصائب والنكبات العامة التي تنزل بالأمم وبالدول وبالجماعات وبالطوائف، هذه المصائب لابد لها من أسباب، أما مصيبة الفرد، فقد يكون لها سبب، وقد تكون تمحيصاً كما قال عليه السلام: {أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل} قد يكون تمحيصاً ورفعةً للدرجات، لكن المصائب العامة التي تنزل بالأمم، لها جانب مسئولية في الأمة نفسها، وفي الطائفة نفسها، وفي الدولة نفسها، فنحن نغفل عن هذا الجانب الذي نحن مسئولون عنه، ونقول: هذا ابتلاءٌ وامتحانٌ من الله تعالى وليس دورنا فيه إلا الصبر، الصبر مطلوب، لكن أيضاً مراجعة الأخطاء، فقد نكون تعجلنا في خطواتٍ كانت سبباً في المصيبة، أو سلكنا طريقاً غير صحيح، أو قصرنا في اتخاذ الأسباب، أو غفلنا عن التوكل على الله عز وجل، وتفويض الأمور إليه، واعتمدنا على أسبابنا ووسائلنا، فوكلنا الله إلى أنفسنا إلى غير ذلك من الأسباب التي يمكن أن نستقرئها من خلال دراسة المحنة، ومعرفة دورنا في هذه المحنة.
مثال آخر قلة الأتباع: رأيت كثيراً من الدعاة حين ينظر إلى من حوله فيجد قلةً في من يتبعونه، فيقول: هذه هي السنة، سنة الله تعالى في الأمم، ثم يسرد لك الآيات الواردة في القرآن الكريم، فيقول لك: قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ويستدل لك بقول النبي عليه الصلاة والسلام: {ويأتي النبي وليس معه أحد، والنبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان} ثم يخرج وكأنه حينئذٍ يقول: قلة من يتبعونني في الدعوة ليست لتقصيرٍ عندي، ولكن هذه سنة إلهية، أي ليس لي أي دورٌ فيها، وهنا تأتي الخطورة، وهو أننا قد نجبن عن مواجهة أنفسنا بالحقائق، مع أن هذه الآيات الواردة هنا هي في شأن الكفار، أما هذه الأمة المحمدية فقد ثبت بدلالة الشرع والتاريخ والواقع أيضاً أنها أمة معطاءة، أليس الرسول عليه السلام قال في نفس الحديث، حديث عمران قال: {ثم رفع لي سوادٌ عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر فنظرت فإذا سواد قد سد الأفق، فقيل لي: هذه أمتك، وفيهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب} وفي رواية أخرى قال ابن حجر: سندها حسن: {ومع كل ألف سبعون ألفاً} إذاً هذه أمة العطاء وأمة البذل وأمة القبول، وحين يرتفع في هذه الأمة صوتٌ صادقٌ للدعوة، تلتف حوله الأمة ولابد على مدار التاريخ، ولما كانت هذه الأمة في الجاهلية، كانوا في سوق عكاظ والمجنة وذي المجاز، كل شاعرٍ يجتمع حوله عشرة أو عشرون لكن لما قام الرسول عليه الصلاة والسلام بدعوته اجتمع حوله في حجة الوداع -كما ذكر الحاكم أبو عبد الله وغيره- ممن سمعوا خطبته أكثر من مائة وأربعة عشر ألفاً، يستمعون خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، أولُ مرةٍ يجتمع مثل هذا الحشد، ثم ورث هذا السر أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبحنا نجد مثلاً الإمام أحمد يحضر مجلس درسه ما يزيد على خمسة آلاف إنسان، هذا مجلس فقه وحديث وسنة، ومجلس وعظه يحضره ما يزيد على خمسة آلاف، ويحضر جنازته ألوف مؤلفة لا يحصيها العد، ثم يأخذ الراية بعده أئمة كُثُر، خذ منهم ابن الجوزي مثلاً كم كان يحضر مجلس وعظه؟ ذكروا أنه كان يقدر بعشرات الألوف، وقد يُسْلم في المجلس الواحد عشرات من أهل الذمة، ويتوب مئات من المؤمنين الضالين، ابن تيمية رحمه الله كيف كانت قلوب الأمة تلتف حوله؟! إذاً: ليس بصحيحٍ أن نخرج من قلة الأتباع بأن نقول: هذه والله سنة الله تعالى، ونسوق الآيات الواردة في شأن الكفار، وأنهم أكثر أهل الأرض، ثم نطبقها على أنفسنا، لا، فقد تكون قلة الأتباع لهذا الداعية أو ذاك، ترجع إلى أسباب تعود إليه هو، مثلاً قد يكون ذلك لغياب القدوة، لأن هذا الداعية ليس على مستوى القدوة، فيدعو إلى شيءٍ لا يطبقه في نفسه، وقد يكون السبب لأجل قسوة الشروط أحياناً، فالداعية يريد من الناس أن يلتزموا بشروطٍ صعبة لا يقبلها أي إنسان، يريد إنساناً على مستوى معينٍ ذكاء معين، وطاعة معينة، وانقيادٍ معين، واستعدادٍ معين، والناس كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: {كإبل مائة لا تجد فيها راحلة} إذاً قسوة الشرط قد يكون من أسباب قلة التابع إلى غير ذلك.
مثال ثالث: ضعف التأثير من الداعية في الناس، يدعو فيجد أن أثره ضعيف، يرجع يقول: هذا أمر طبيعي أليس الرسول عليه السلام لما ذكر الغرباء قال: {من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم} إذاً هذا أمر طبعي ولا غرابة فيه، وينسى أن هذا الأمر قد يكون بسبب ضعف المؤثر، أو ضعف الوسيلة التي يستخدمها في الدعوة، أو عدم القدرة على الوصول إلى نفسية المتلقي وعقله وقلبه وفكره إلى غير ذلك.
مثال رابع: قضية المفاجأة بالأحداث والنتائج، نفاجأ بأحداث كثيرة، لعل أحداث الساعة، من الأحداث التي فوجئ بها الجميع، وقبلها أحداث كثيرة وقعت على كافة المستويات، إذا فوجئنا بها نلوذ ونحتج بالقدر، ولاشك أن الله تعالى ذم المشركين على احتجاجهم بالقدر، في ثلاثة مواضع من كتابه، قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148] بل الإنسان المؤمن مسلكه مسلك أبيه آدم عليه السلام، صحيحٌ أنه يؤمن بأن هذا كله بقضاء الله وقدره، لكن لا يمنع هذا أن يكون هناك أسبابٌ أوصلت إلى هذه النتيجة، ويجب العمل على إزالة هذه الأسباب، ولذلك من آمن بالأسباب وعملها، وآمن بالقدر؛ فهو مؤمن موحد على مذهب آدم عليه السلام ومن يشابه أباه فما ظلم! لابد أن ننازع القدر بالقدر، كما قال بعض أهل العلم: ننازع الجهل بالعلم، والفقر بالمال، والمرض بالعلاج، والفوضى بالتخطيط، والتعتيم ننازعه بالمكاشفة والتعبئة، ولابد من تحديد المسئولية بدقة، كلنا مسئولون -لاشك- عما يقع لنا على مستوى الأمة، لكن درجة المسئولية تتفاوت، فليست مسئولية الفرد العادي كمسئولية العالم، أو كمسئولية الحاكم، أو كمسئولية المفكر، بل كل إنسان يتحمل من المسئولية بقدر طاقته.
أما تحميل المسئولية لجهةٍ معينة، كالحكام أو العلماء، فهذا أيضاً من المهارب النفسية التي نلجأ إليها للخروج من أزمة معينة، ونطلع نحن أبرياء، وقد نحتج بالحديث الضعيف الذي رواه أبو نعيم: {صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء} وهذا الحديث لا يصح سنداً ولا متناً، وبناء على تحديد المسئولية، نكون جميعاً مطالبين بالعمل على الخروج من الأزمة، كل في مجال اختصاصه، كل متخصصٍ في مجالٍ يقدم ورقة، ويرفع راية، ويخط طريقاً، ويجر وراءه من يستطيع.