هناك نقطتان: النقطة الأولى: هذه مشاركة من أحد الإخوة بعنوان سباحة أو سياحة فكرية في عقل عامل نظافة، يقول: عندما ترى عامل النظافة في الأربعين عاماً ربما انزعجت من صوت عربته، وارتطام عجلاتها بحفر الأرض، وربما التفت إليه ناهراً، وربما يراه أحد الأطفال وهو ينظف الأرض وقصاصات الأوراق وقطع الخشب؛ فدفعته غريزة العناد إلى أن يمزق أوراقاً أو مناديل كانت مستقرة في جيبه، ليقوم هذا الذي يسميه: رفيق، بجمعها وهو ينظر بتلذذ، وربما كان عمر هذا الطفل ثمانية عشرة عاماً، نعم هو طفل ولكنه كبير، وربما لفت نظرك عناية هذا العامل بشعره؛ فهو يقوم عليه بالدهن والمشط والتصفيف يومياً، ألم يخطر ببالك أنه ربما كان هذا الفعل هو العمل الوحيد الذي يستشعر به بقاء ذاته ويبقي على كبرياء نفسه؟ عندما يرى في طريقه طفلاً صغيراً ربما انفلتت من عينه دمعه، إنه تذكَّر أبناءه الصغار الذين خلفهم في بلاده البعيدة منذ زمن طويل لا يراهم إلا في الأحلام، ولا يعرف من أخبارهم إلا ما تجود به الأيام من رسائل على مدد متباعدة طويلة، وعندما يرى جمعاً من الناس في مناسبة ما يجمح به الخيال بعيداً حيث أبواه وإخوانه وأقربائه وخلانه وهو يلتقي بهم ويتحدث إليهم، وربما لم يرده من شروده إلا صوت المراقب ينهره ويأمره بمواصلة العمل.
عندما يدفع عربته التي باتت أقرب الناس إليه بين الشوارع، ويرى البيوت الشامخة المكللة بالمصابيح المختلفة ذات الأشكال الهندسية البديعة يستحضر في ذهنه كوخه المتهدم الذي يقطنه أولاده وزوجته وأبواه وإخوته.
وعندما يبصر صاحب البيت وهو يوقف السيارة ليفرغ حمولتها من كل لون وجنس من المطعوم والمشروب يتلمظ ويسيل لعابه وهو يتذكر واقعه الذي فر منه، وكيف كان يجهد وراء لقمة العيش ويجلب الماء من النهر، وربما أدركت صاحبة البيت الرقة فنفحته ببرتقاله أو تفاحة أو جمعت بينهما فرفع يديه بالشكر والدعاء وأجهد مكنسته وهي كل ما يملك حول هذا البيت المنعم، وعندما يهب إلى مسكنه وهي الغرفة التي يشاركه فيها أربعة من زملائه يحس بالإرهاق بعد تعب النهار، فلا يجد ما يُسلِّيه إلا صوت المذياع وربما لم يعرف اللغة التي يتكلم بها المذيع، وربما أحس بمرض، أو أصيب بحادث، ووقتها شعر بوحشة الوحدة، ولسع الغربة، ولا أحد يخفف عنه، ولا أحد يؤنسه حتى ثقلت عليه الساعات وأظلمت في وجهه الأيام، وربما مات وحيداً غريباً، وبينما كان أولاده ينتظرونه ليزغردوا في وجه، وكانت زوجته تترقب وصوله لتطمئن على سلامته، وكان أبواه ينتظرانه ليساعدهما بماله الذي جمعه على علاج مرضهما؛ ففوجئ الجميع بجثمانه يصقع أبصارهم، فماتت البسمات على شفاههم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق37] وآخر شارك بقصيدة تُعبِّر وتحمل بعض هموم صاحب العمل، ولعلها موعظة لرب العمل قبل أن تكون حكاية لواقع، شارك أحد الإخوة بهذه القصيدة: اعلم هداك الله أن حياتنا لا تستديم لنا ولا تتخلد وأنا وأنت وكل حي نابغ تحت التراب مصيره سيمدد وهناك لا تحكي سوى أعمالنا كل صحيفته شراع مفرد فارجع وعدل ما استطعت فإننا ما بين غمضٍ ثم رمش نورد فالظلم ظلمات إذا بعث الورى وجوارح عند الإله ستشهد واحذر لمظلومٍ دعاءً صادقاً يدعو عليك وقلبه يتوقد ما بين دعوته وبين إلهه حجب تظلل أو صواعق ترعد حق الأجير معلق برقابكم ما ظل عرق لم يجف ويجحد فعلام تؤذينا بهظم حقوقنا ولكم بذلك واجبات تحمد سبع قضيناها بكل أمانةٍ ما زاد فيها الراتب المتجمد وتضاعفت أعباؤنا فحملتها ثقلاً على كتفي وما فترت يدي لكنني ما نلت أي مقابل معنى يكون لنا وشيء ينقد فظللت أستجدي لآخذ أجرتي حقاً تذللني به لا أبعد وتؤخر المصروف عن ميعاده ومعاشنا فيه ومنه المرقد ولأنني أنا قد طلبت إجازتي تقسو عليَّ وبالخروج تهددُ أتظن إن عدنا إلى أوطاننا سنموت جوعاً أو سيطفأ موقد الرزق عند الله وهو كفيلنا ما ظل نبض قلوبنا يتجدد ما لي أراك عدلت عن خلق الألى وخصال قومك أنت عنها تبعد فأبوك نجم في المروءة ساطع هش اللسان وفي المكارم فرقد نعم، هكذا كان أبوه، أما الولد فكما قيل: أرى ناراً قد انقلبت رمادا.
جم التواضع لا يحقر غيره شهمٌ وعند الحق لا يتردد ملك القلوب بنيله ووفائه عدل وما لقضائه أبداً غدر ما غره مال ولا متقلب أفضاله في البر لا تتعدد فالله أسأله بحق صفاته صبراً على الدنيا به أتجلد ويرد مظلمتي غداً يا ذ ذاك يوم تقول ما فعل الغدُ