الطبيعة البهيمية

إن كون الإنسان في هذه الدنيا لا همَّ له إلا المتعة، بالأكل والشرب وبألوان المتع المادية الحسية، هو أمرٌ يشترك فيه الإنسان مع الحيوان، بل لا نبالغ إذا قلنا: إن الحيوان أقوى من الإنسان فيه، فالناس إذا رأوا إنساناً شرِهاً في الأكل، قالوا: هذا يأكل أكل البعير مثلاً، أو أكل الحمار، فالإنسان إذا كانت القضية مقصورة على الجوانب المادية، والمتع الحسية، فإن الحيوان فيها يكون أبرع من الإنسان وأكثر.

وفي هذا المجال يعجبني ما ذكر الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه الجيد المفيد: تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، وهو يتكلم عن الإنسان، فماذا يقول عن الإنسان؟ يقول: "لم أعن بالإنسان كل حيوان منتصب القامة، عريض الظهر، أملس البشرة، ضاحك الوجه، ممن ينطقون ولكن عن الهوى، ويتعلمون ولكن ما يضرهم ولا ينفعهم، ويعلمون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، ويكتبون الكتاب بأيديهم، ولكن يقولون: هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، ويجادلون ولكن بالباطل ليدحضوا به الحق، ويؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت، ويعبدون ولكن من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ويبيتون ولكن ما لا يرضى من القول، ويأتون الصلاة ولكن كسالى ولا يذكرون الله إلا قليلاً، ويصلون ولكنهم من المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون ويمنعون الماعون، ويُذَكَّرون ولكن إذا ذكروا لا يذكرون، ويدعون ولكن مع الله آلهة أخرى، وينفقون ولكن لا ينفقون إلا وهم كارهون، ويحكمون ولكن حكم الجاهلية يبغون، ويخلقون ولكن يخلقون إفكاً، ويحلفون ولكن يحفلون بالله وهم كاذبون، فهؤلاء وإن كانوا بالصورة المحسوسة أناساً فهم بالصورة المعقولة لا ناسٌ ولا نسناس.

والنسناس نوع من الحيوان الوهمي، الذي يدعون أنه يشبه الإنسان، مثل العنقاء، أي أنه حيوان وهمي لا وجود له كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: [[يا أشباه الرجال ولا رجال]] بل هم من الإنس المذكور في قوله تعالى: {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] .

قال: وما أرى البحتري إذا اعتبر الناس بالخلق لا بالخلق متعدياً، في قوله: لم يبق من جُل هذا الناس باقية ينالها الوهم إلا هذه الصورُ -يقول: ما بقي من الناس إلا صورهم وأشكالهم، أما حقائقهم فاختفت وزالت- ولا من يقول في قصيدةٍ أخرى: فجلهمُ إذا فكرت فيهم حميرٌ أو ذئابٌ أو كلابُ ولا تحسبن هذه الأبيات أقوالاً شعرية وإطلاقاتٍ مجازية، فإن الله تعالى يقول: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] ".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015