أولاً: الرجوع إلى الدين: فإن الدين هو سر القوة، والبقاء، والصبر، وسر التجمع والوحدة بين المسلمين، فالغرب ينزعج كثيراً من إقبال الناس على الإسلام، سواء ما نسميه نحن باصطلاح: الصحوة الإسلامية، أو أي مظهر آخر ينم عن عودة إلى الدين ورجوع إليه، فإن هذا يشكل عند الغرب رعباً ليس باليسير، ولذلك دلالات مهمة: أ/ فشل جهود التنصير: أولها: أن الغرب حينما يكتشف عودة الناس إلى الإسلام، فمعنى ذلك أنه يكتشف أن الجهود الضخمة التي بذلها هو للتنصير قد باءت بالفشل، وأن الجهود الأخرى التي بذلها للتغريب، ومحاولة جعل المسلمين بعيدين في مجال حياتهم عن الإسلام أنها هي الأخرى لم تجدِ نفعاً، وعلى سبيل المثال بثت إذاعة ألمانيا، وإذاعة صوت أمريكا، باللغة الأمهرية الموجهة إلى بعض البلاد الإفريقية وغيرها، بثت تقريراً نشرته الواشنطن بوست، أبدت فيه تخوفها من تمدد الإسلام، وهذه المخاوف تعتبر تعزيزاً وتأكيداً لمنشور سري وزعته الكنيسة باللغة الإنجليزية، وأشار هذا المنشور إلى سرعة تنامي عدد المسلمين، ولا سيما في أثيوبيا، حيث لا يرتاد الكنيسة إلا أقل من (5%) من سكان أديس أبابا، وأكد المنشور على ضرورة السعي الجاد للتنصير، ونقل التنصير من بيت إلى بيت لمواجهة الإسلام، هذا فيما يتعلق بالتنصير، وهو مثال من طرف القلم كما يقال، وإلا فالأمثلة في الجريدة الواحدة تعد بالعشرات.
أما فيما يتعلق بالسلوك الاجتماعي والأخلاقيات في أوساط المسلمين، فقد نشرت -وهذا أيضاً مجرد مثال- مجلة اسمها بانوراما الخليج، في عدد سابق مقالاً عنوانه: "خلونا ننشد ما دامت الغناوي حرام" وخلاصة المقال أن الكاتبة تبدي ذعرها وانزعاجها من شباب وشابات هذه الجيل، الذين أصبحت حياتهم -كما تعبر هي- حياة رتيبة مللاً في ملل، وأصبحوا يعيشون روتيناً لم يفرض عليهم، ولكن اختاروه بأنفسهم من المدرسة إلى المسجد إلى البيت وما أشبه ذلك، هؤلاء الشباب تقول: لم يعد الواحد منهم يتجه -مثلاً- إلى النوادي الاجتماعية، ولا يتجه إلى الجامعة لماذا؟ لأن الجامعة فيها اختلاط، وأصبحت البنت تفرح بمجرد ما تدعو لها أمها بالزواج، وتقول بصوت عالٍ: اللهم آمين، اللهم آمين، فالكاتبة المتحدثة مذعورة من هذا الإقبال على التدين ومن الالتزام بالأخلاقيات الذي لم يفرض على البنات والأولاد، وإنما بمحض اختيارهم، طلبوه وأرادوه، ونحن لا شك لا نصدق أبداً حقيقة ما تقول هي عن الملتزمين والملتزمات، فهم سباقون إلى كل خير، وهم بحمد الله منافسون في كل ميادين الحياة، ولكن هذه صورة من صور التشويه.
تقول في آخر المقال: خلونا نطلع، نمثل، نقرأ، نعزف، وحتى خلونا ننشد مادامت (الغناوي) حرام.
إن مثل هذا الكلام له معنى كبير، على رغم أننا نعلم جميعاً أن الأجهزة الرسمية في البلاد الإسلامية، ليست أجهزة محايدة لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، لا، بل هي تزيد في جرعة الفساد كلما زادت نسبة الخير، فكلما كثر الإقبال على الدروس والمحاضرات، كثفت الدورات الرياضية، ووسع نطاقها لإغراء المزيد من الأولاد والبنات بالاتجاه إليها، وكلما زادت الحشمة والعفة في أوساط البنات, وسعت أجهزة الإعلام من مساحة التحلل فيها، وقبل ثلاثة أيام نشر في القناة الثانية، في التلفزيون السعودي مشهداً -الذين يكبون على مشاهدة التلفاز يندهشون منه- رجل يقبل فتاة، وهكذا.
إذاً الدلالة الأولى التي يكتسبها ويكتشفها الغرب من التوجه نحو الإسلام أن جهوده للتنصير، أو التغريب على حد سواء قد باءت بالفشل.
أما الدلالة الثانية: فهي أن العالم الإسلامي بدأ يستعيد تميزه، واستقلاليته الفكرية، والعقائدية.
إن من الممكن أن يتعايش الغرب مع دول إسلامية، علمانية في إطارها العام، فالذي يزعج الغرب ليس هو مجرد رفع شعار الإسلام فحسب، ولا مجرد بناء المساجد فحسب، ولا مجرد دفن الموتى على الطريقة الإسلامية فحسب، وإن كان ذلك كله يزعج الغرب أيضاً، ولكن الذي يخيف الغرب هو الوجود الإسلامي بالمعنى الشمولي للإسلام.
الذي يخيف الغرب هو الإسلام الذي يهيمن على الاقتصاد، فيهدم الربا، ويحاول إقامة النظام الشرعي الإسلامي بديلاً عن النظام الرأسمالي الربوي الغربي.
الذي يخيف الغرب هو الإسلام الذي يرفع راية الجهاد، والجهاد ذروة سنام الإسلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله} هذا الجهاد الذي كان شبحاً على مدار التاريخ يخيف الغرب، وهو الذي أذعنت له أوروبا يوم وطئتها سنابك خيول المسلمين القادمة من بلاد الأندلس، -أسبانيا الفردوس المفقود- ويوم أن احتل المسلمون العثمانيون أجزاء غير قليلة من أوروبا، وكادت روما عاصمة النصارى أن تقع في أيدي المسلمين.
الذي يخيف الغرب هو ذلك المجتمع المسلم الذي يبني علاقاته الدولية ومعاهداته ومواقفه على أساس من العقيدة الإسلامية الصحيحة.
الذي يخيف الغرب هو الإسلام الذي يقيم نظام الدولة بتفاصيله كلها على أساس التشريع الإسلامي، ومرجعية القرآن والسنة.
إذاً: فالذي يخيف الغرب: هو ما يسميه هو بالإسلام الأصولي، الإسلام المهيمن على كل مناحي الحياة، ولو كان الذين يحملون هذا الإسلام الأصولي، مهذبين بأساليبهم، ولو كانوا منطقيين، ولو كانوا عقلانيين، المهم أنهم يحملون فكراً شمولياً، يحملون الإسلام كله جملة وتفصيلاً، ويمتثلون قول الله عز وجل: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85] فيعملون على أن يؤمنوا بالكتاب كله، ويدعوا إليه كله، ويقوموا به كله، فلا يجزئون الإسلام، ولا يجعلون القرآن عضين، كما توعد الله من يفعل ذلك، فهؤلاء الأصوليون مهما كانت أساليبهم مهذبة، وطرائقهم لبقة، وعباراتهم هادئة، وشخصياتهم لطيفة، إلا أنهم مصدر إزعاج كبير للغرب.
وعلى النقيض فإنَّ الإسلام الذي يمكن أن يقبل به الغرب بشكل مؤقت، هو لون آخر سيتبين بعد قليل، إن خطراً كهذا الخطر الإسلامي يمكن أن يهدد الغرب في عقر داره، أما ذلك اللون المهجن المدجن لا أقول من الإسلام، فالإسلام واحد، ولكن أقول: من المسلمين المنتسبين إلى الإسلام، فهذا من الممكن أن يهادنه الغرب، وأن يصالحه مصالحة مؤقتة -أيضاً- ليست طويلة الأمد؛ لأن هذا الإسلام الناقص الذي قد يؤمن به بعض المسلمين، من الممكن أن يتحول مع الوقت إلى الإسلام الكامل، وهذا المسلم الضعيف، من الممكن مع الأيام أن يعطي صوته وتأييده ونصرته لذلك المسلم القوي، إنما يعمل الغرب على الموازنة بين المصالح، وترجيح بعضها على بعض، فمن الممكن أن يهادن بعض شرائح المسلمين مؤقتاً، ريثما يفرغ للعدو الأكبر (الإسلام الأصولي) .
إن التاريخ كله هو في الحقيقة تاريخ الصراع بين العقائد والمبادئ والمذاهب، ومن يستعرض الحروب العظمى في التاريخ يتأكد من هذه الحقيقة، فالحروب الإسلامية كلها على مدار أربعة عشر قرناً من الزمان، ثم الحروب الصليبية وغيرها، هي مجرد أدلة على أن التاريخ كله، تاريخ الصراع بين العقائد.
لا تظن أبداً أن التاريخ تاريخ الصراع على المرأة، أو تاريخ الصراع على حفنة من الطعام، أو تاريخ الصراع على البترول فحسب، لا؛ هذه الأشياء كلها صحيحة، لكن الصراع الجذري والصراع الجوهري بين كل أمم الدنيا هو الصراع بين العقائد، الصراع بين الأديان، الصراع بين المذاهب، وقلّبْ تاريخ أي أمة من الأمم، لا تخطئك هذه الحقيقة قط، ولا شك أن الغرب اليوم لا يملك العقيدة التي يستطيع أن يواجه بها الإسلام، وإن حاول الغرب أن يستعين بالعقيدة النصرانية كحل، ويكثف الجهود في الدعوة إليها، وقد طالب نكسون كما ذكرت لكم في المجلس السابق بأن على أمريكا أن تشبع العالم روحياً، ولا تكتفي أن تشبعهم مادياً بالمساعدات فحسب، وقال: إن علينا أن نحمل الإنجيل بيد، ونحمل المساعدة الإنسانية باليد الأخرى، ومع ذلك فلا شك أن الغرب يدرك أن النصرانية غير قادرة على مواجهة الإسلام.
لقد فشلت النصرانية وانهزمت في أوروبا دون أن تواجه ديناً آخر، فالأوربيون تركوا النصرانية، وتركوا الكنيسة إلى ماذا تركوها؟ إلى دين آخر؟ لا؛ لم يتركوها إلى الشيوعية مثلاً، والذين تشيعوا من الغرب قليل، أحزاب معدودة في فرنسا وفي غيرها، لم يترك الغرب النصرانية إلى اليهودية، لم يترك الغرب النصرانية إلى الإسلام؛ لأن الإسلام لم يقدم له بصورة دعوة سابقاً، إنما ترك كثير من الغربيين النصرانية عقيدةً وسلوكاً وعبادةً، تركوها إلى المرقص، والماخور، والسوق، والبنك، وإلى غير ذلك.
فدل هذا على أن النصرانية دين محرف أولاً، ودين منسوخ ثانياً، فلو كانت غير محرفة، لكفاها أنها منسوخة؛ مما يدل على أنها لا تلائم الإنسان في هذا العصر، فالله تعالى هو العالم بطبيعة الإنسان، وفضلاً عن كونها منسوخة فهي محرفة -أيضاً- دخلتها يد التحريف والتغيير والتبديل، من اليهود ومن النصارى ومن غيرهم، فإذا كانت النصرانية قد فشلت في استقطاب الناس في قلب أوروبا على رغم عدم وجود المنازع لها، فكيف تتصور أن يكون الحال لو كانت النصرانية في مواجهة الإسلام؟ لا بد أن يؤمن ويوقن المسلم الذي يصدق الله تعالى ويؤمن به، ويصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، بأن النصرانية فاشلة في مواجهة الإسلام، وأن مجرد ظهور الحق كافٍ في دحضها، قال الله عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] فالباطل زاهق وذاهب لا بقاء له ولا وجود، وقوله سبحانه: {فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] ، أي: يصيبه في الدماغ، ضربة مسددة قاضية لا بقاء له معها قط.
وقال الله عز وجل: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَ