إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] .
أما بعد: فسلام الله تعالى عليكم ورحمته وبركاته أجمعين.
ثم إن هذه الليلة، ليلة الإثنين السادس من شهر ربيع الأول، من سنة (1414) من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهذا الدرس هو السادس والتسعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وعنوانه: (نهاية التاريخ.
وهذا العنوان مستعار من كتاب أحدث ضجة كبيرة، وقد طبع في أمريكا ووزع في أنحاء العالم، وترجم إلى اللغات الحية بما في ذلك اللغة العربية، ومؤلف هذا الكتاب رجل ياباني الأصل أمريكي الجنسية والمولد، اسمه فرنسيس فوكوياما، أما المترجم العربي فهو الدكتور حسين الشيخ، وقد طبعت الترجمة العربية للكتاب في دار العلوم العربية ببيروت في قرابة ثلاثمائة صفحة، وقد أتيح لي أن أقرأ مجموعة من التحاليل، والتقارير، والدراسات حول هذا الكتاب، ثم أن أطلع عليه بترجمته العربية.
وفكرة هذا الكتاب -نهاية التاريخ- فكرة بسيطة إلى حد السذاجة -كما يقول أحد المحللين- وهي تعتمد على أن المؤلف يقول وهو يحتفل بسقوط الشيوعية، وانهزامها، ودفنها: إن الديمقراطية الغربية قد انتصرت، وانتصر معها الغرب، ولم يعد أمام العالم -أمريكا والغرب- ما ينتظرونه من جديد، فلقد حدث الجديد فعلاً، وهو انهيار الماركسية وتفكك الاتحاد السوفيتي، وانتشار النظام الديموقراطي الليبرالي الحر في العالم، بما في ذلك الدول الشرقية التي كانت تابعة للمنظومة الشيوعية، ولهذا فقد أُغلق باب التاريخ فلا جديد بعد اليوم، إلا في حدود بعض الإصلاحات والتغييرات الطفيفة هنا أو هناك.
فهذه هي فكرة الكتاب، يقول المؤلف: ليس هناك أيدلوجية، أو عقيدة يمكن أن تحل محل التحدي الديمقراطي الغربي الذي يفرض نفسه على الناس، لا الملكية، ولا الفاشية، ولا الشيوعية، ولا غيرها، حتى أولئك الذين لم يؤمنوا بالديمقراطية، ولم يتبنوها كمنهاج لحكمهم، أو حياتهم، أو عملهم، يقول: سوف يضطرون إلى التحدث بلغة ديمقراطية، ومجاملة التيار من أجل تبرير الانحراف والديكتاتورية والتسلط الذي يمارسونه.
أما الإسلام فإن المؤلف يتحدث عنه بلغة مختلفة بعض الشيء، فهو يقول: يمكن أن نستثني الإسلام من هذا الحكم العام، وهذا الكلام، فهو دين متجانس، ودين منتظم وهو قد هزم الديمقراطية في أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي، وشهدت نهاية الحرب الباردة بين الغرب والشرق، تحدياً سافراً للغرب على يد العراق، وهو يعتبر أن التحدي العراقي يتضمن تحدياً إسلامياً، باعتبار الموروثات الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط، فهذا الدين الإسلامي، يقول المؤلف: على رغم جاذبيته العالمية، وقوته إلا أنه ليس له جاذبية خارج المناطق ذات الثقافة الإسلامية، فالشباب مثلاً في برلين، أو طوكيو، أو موسكو، أو واشنطن لا يجذبهم الإسلام، وإن كان يؤمن به أعداد من الذين يعانون ظروفاً صعبة، أو من الساخطين على الأوضاع العامة هنا أو هناك.
إذاً: يقول: أصبح من الممكن أن نخترق العالم الإسلامي بالأفكار التحررية الغربية، وأن نكسب أنصاراً داخل المسلمين ممن يؤيدون الليبرالية الغربية، أو العلمنة الغربية.
وهذا التوقع الذي طرحه المؤلف في كتابه نهاية التاريخ، هو مجرد حلم لذيذ، أو توقع محتمل على أحسن الأحوال في ظنه، أما الآخرون فيقولون خلاف ذلك، إن هذا الكلام الذي قاله، قاله من قبله هتلر حينما تحدث عن الرايخ الثالث الذي سيعيش ألف عام على حد زعمه، ولكن هذا التوقع اصطدم بالواقع المخالف تماماً لما يقول.
ومثل ذلك الماركسية التي كانت تتحدث عند انتصار اليوتوبيا، وقيام جنة دنيوية، وفردوس ينتظم العالم كله تحت ظل الشيوعية، فإذا بالشيوعية لم تعش أكثر من سبعين سنة، وهي عمر إنسان عادي ليس عمر دولة، أو أمة، أو معتقد، ثم في ظل هذه السنوات القصيرة يعيش العالم الشرقي تحت الشيوعية حياة بائسة كئيبة.
ومثل ذلك نبوءة شبلنجر عن انهيار الغرب.
إذاً: هي مجرد ظنون، أو أوهام، أو أحلام لذيذة مخدرة، يتوقعها هؤلاء الكاتبون.
وكما ذكرت فقد أشار وأثار هذا الكتاب زوبعة كبيرة، وكتبت عنه مئات الصحف في أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وكتب عنه كاتبون كثيرون، بعضهم قسس، وبعضهم مفكرون اجتماعيون أو سياسيون، وانتقدوا هذا الطرح الأمريكي المتطرف، واعتبروا أن الكاتب بسيط إلى حد السذاجة، وأن ما قاله لا يعدو أن يكون احتفالاً بسقوط الشيوعية، ولا يملك مقومات النظرية العلمية الصحيحة.
وQ ماذا يعني سقوط الحضارة الغربية، أو الحضارة الأمريكية على وجه الخصوص؟ ماذا يعني تحديداً؟ بعض الناس يتصورون -مثلاً- أننا حينما نتحدث عن سقوط الغرب، أو أمريكا، أو الحضارة الغربية، يعنون معنىً عاماً شاملاً يترتب عليه تدمير جميع المنجزات الحضارية، وعودة الإنسان -كما يقولون- إلى العصور البدائية بعيداً عن كل ما يتمتع به في هذا العصر.
وهناك -مثلاً- طرح عبارة عن فيلم اسمه: مقاتل على الطريق لـ جورج ميلر، وهذا الروائي يتنبأ بهذه النهاية المرعبة للعالم الغربي، والبؤس الذي سوف يلف العالم هناك، ويقضي على كل المنجزات الحضارية التي يتمتع بها الناس اليوم، سواء منجزات الاتصالات المختلفة، أم المتعة، أم الرفاهية، أم النقل، أم الكهرباء، أم غير ذلك.
وهكذا روايات الخيال العلمي -كما يسمونها- التي تصور تدمير الحضارة التكنولوجية الحديثة، والعودة المفاجئة إلى العصور البدائية، ولذلك فإن البعض يبدون انزعاجاً من الحديث عن سقوط الغرب، لأنهم يظنون أن سقوط الغرب سوف يترتب عليه زوال هذه الفرص والإمكانيات التي يتمتعون بها الآن.
حتى إنني قرأت لكاتب إسلامي في جريدة الحياة، أنه يقول: ينبغي ألا نطرح هذا الأمر بتفاؤل لأن هذه الأشياء مصلحة مشتركة بين الأمم كلها، وهذا في الواقع ليس مقصوداً لنا، حينما نتحدث عن سقوط الغرب، أو سقوط أمريكا، وإن كان هذا مطروحاً لدى بعض الغربيين، فهناك جماعات من العلماء المتخصصين يتوقعون أحوالاً سيئة سوف تكون إليها البشرية، حتى يوم كان هناك نظرة متفائلة مثالية للمستقبل قبل عشرات السنوات وكانت هي السائدة.