الصنف الأول: هم الأنبياء؛ وكل رؤيا الأنبياء حق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {رؤيا الأنبياء حق} فإن الأنبياء لا يقولون من الكلام إلا الصدق، ولذلك لا يرون في المنام إلا الحق، فجميع رؤيا الأنبياء حق بلا استثناء، ولذلك ورد عن جماعة من أنبياء الله ورسله في القرآن مرائي رؤها وكانت حقاً لا شك فيه، لعل من أشهرها وأعرفها رؤيا يوسف عليه السلام التي جاءت في سورة يوسف: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] .
فهذا أول السورة، وفي آخر السورة: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100] .
رؤياه عليه الصلاة والسلام جاءت حقة كفلق الصبح، وقد جاء عن بعض السلف عند الطبراني والبيهقي كما في رواية عن سلمان الفارسي وسندها صحيح: [[كان بين رؤيا يوسف وبين تعبيرها أربعون سنة]] .
وجاء عن ابن مسعود أنها تسعون سنة أو ثمانون سنة وقيل أقل من ذلك، وذكر بعض السلف أن أمد الرؤيا ينتهي إلى أربعين، أي إذا رأى الإنسان رؤيا فأقصى ما يمكن أن تحدث فيه أربعون سنة، وهذا استنباط من الرواية الواردة عن سلمان الفارسي، لكن ليس عليه دليل من كتاب الله تعالى صريح ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تتحقق الرؤيا في زمان طويل يزيد على أربعين سنة، وهذه رؤيا يوسف عليه السلام.
ومنها أيضاً رؤيا إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:102-105] .
وقد جاء عن السدي عند ابن أبي حاتم في قصة ذبح إبراهيم لابنه إسماعيل قصة طويلة مشهورة أنه ذهب به، فجاء الشيطان إلى أمه فقال: إنه ذهب ليقتله، فأضجعه إبراهيم بعد أن أخبره، فقال له: يا أبت اشدد وثاقي، واجعل وجهي إلى الأرض لئلا تصيبك رقة أو رحمة فتصد عن أمر الله عز وجل، ثم قال: أبعد ثوبك لئلا يصيبه الدم، فتراه أمي فتحزن لذلك، فكان يضع السكين على رقبته، فتتغير وتصبح شفرتها إلى أعلى، ثم بعث إليه الله تعالى بكبش من الجنة، وفدى به إسماعيل عليه السلام.
وهذه القصة وإن كانت من روايات بني إسرائيل إلا أنها تسير في منوال النص القرآني ليس فيها جديد، لأن من المعلوم أنه ذهب معه وعرض عليه الرؤيا ووافقه على ذلك، بل أمره وقال: يا أبت افعل ما تؤمر، وأسلم لله عز وجل وتله للجبين: أي: جره، وجعل جبهته على الأرض، وبدأ يحاول أن يذبحه، وهنا سمع النداء: {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:104-105] {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] وجعل الله تعالى عمله ذكراً حسناً في الناس إلى يوم يبعثون، فهذه من رؤيا الأنبياء وهي حق، ولو لم تكن حقاً لما عمل إبراهيم عليه السلام بمقتضاها، فرؤيا الأنبياء حق؛ أي: أنها وحي من عند الله عز وجل.
وكذلك رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام ثبت في الصحاح عنه مرائي كثيرة جداً، لعلي أسرد شيئاً منها لما فيها من العبرة والعجب؛ ولأن هذه الرؤى التي رأها النبي صلى الله عليه وسلم من شأنها أنها تعود الإنسان على التعبير الحسن للرؤيا، فهي مدرسة يتخرج منها المعبرون.
فمن ذلك ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بينما أنا نائم إذ أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي -وهذه إشارة إلى الفتوح التي فتح الله بها على أمته صلى الله عليه وسلم- قال عليه الصلاة والسلام: ثم نظرت في يدي فوجدت فيهما سواران من ذهب فأهمني أمرهما، فأوحي إلي أن انفخهما فنفختهما فطارا، فأولتهما هذين الكذابين اللذين أنا بينهما مسيلمة الكذاب والأسود العنسي، وفي رواية: فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي} .
فأول النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأساور من الذهب التي رآها في المنام في يديه بأنها عبارة عن رجلين يدعيان النبوة في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان، فقد ادعى مسيلمة وهو في اليمامة وتبعه بنو حنيفة، وادعى الأسود بن كعب العنسي -بفتح العين وسكون النون- النبوة، وتغلب على اليمن، وطرد عامل النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وكان له شأن عظيم حتى أنه كان يضحك على الناس ويلبس عليهم، ويذكر ابن إسحاق من طرائفه أن كان يسمى ذا الحمار فيقول: إن سبب تسميته بهذا الاسم أنه كان في يومٍ من الأيام يمشي في الشارع فمر به حمار أو قرب منه، فعثر الحمار فسقط على الأرض، فقال: إنه قد خر لي ساجداً فسمي بعد ذلك بذي الحمار.
وضحك على الناس وتغلب على اليمن زماناً، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وكان هذا الرجل تزوج امرأة مسلمة بالقوة، فاتفقت مع بعض المسلمين كـ فيروز الديلمي، ومعه رجال على أن تفتح لهم سرباً إلى منامه ففعلت، ثم دخلوا عليه فقتلوه، وكان هذا على الراجح بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
لأن أمر الأسود إنما انتشر وارتفع بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
وقد قال أهل العلم في تأويل هذه الرؤيا: إن كونهما سوارين من ذهب، والرجل يحرم عليه أن يلبس سواري الذهب هذا دليل على أنه هم يلحقه، وهكذا كان، فقد لحق النبي صلى الله عليه وسلم هم من أمر هذين المتنبئين، وكذلك قالوا: كونهما من ذهب دليل على سرعة ذهابهما، وعلى سرعة زوالهما.
وأما كونه نفخهما فقد اختلف فيها أهل التعبير، والأقرب -والله تعالى اعلم- أن النفخ هنا إشارة إلى هوان أمرهما، وأن مجرد نفخة من الرسول عليه الصلاة والسلام كافية في القضاء عليهما.
صحيح أن أمرهما علا وارتفع، وكان لهما خبر عظيم لكن إلى قصر، ما حصل لهم كما حصل في شأن الإسلام الذي لا يزال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها في علو وقوة، فإن أمرهما لا شك يعتبر قصيراً، وكذلك نفخهما إشارة إلى فضيلة أبي بكر رضي الله عنه، وأنه بمنزلة الروح من الرسول عليه الصلاة والسلام، كما ذكر ذلك ابن القيم في زاد المعاد؛ لأن الذي تولى القضاء على حركات الردة هو أبو بكر الصديق.
وكذلك من رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري عن أبي هريرة {أنه عليه الصلاة والسلام رأى امرأة عجوزاً ثائرة الرأس قد خرجت من المدينة حتى نزلت بمهيعة -أي بالجحفة- قال: فأولتها بالحمى التي كانت في المدينة، ومعلوم أنه كانت فيها وباء الحمى، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بنقل حماها إلى الجحفة، فاستجاب الله دعاءه} ورأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في المنام على شكل امرأة عجوز ثائرة الرأس.
كذلك حديث ابن عمر في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {رأيت في المنام رجلاً آدم كأحسن ما أنت راءٍ من أُدم الرجال جعداً، كأن رأسه يقطر ماءً واضعاً يديه على كتفي رجلين وهو يطوف بالكعبة، فقلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا عيسى بن مريم عليه السلام، قال: رأيته، ورأى رجلاً جعداً قططاً أعور كأن عينه اليمنى عنبة طافية، فقلت: من هذا؟ قيل لي: هذا هو المسيح الدجال} فهذه من رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك روى أبو موسى كما في البخاري {أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرتين قال: فذهب وهلي -أي: ظني- إلى أنها هجر -الأحساء- فإذا هي المدينة -وهجر فيها نخل- قال النبي صلى الله عليه وسلم: ورأيت كأنني هززت سيفاً فانقطع طرفه، ثم هززته مرة أخرى، فعاد أحسن ما كان، فأولت ذلك بنقص، ثم بالخير الذي آتنا الله به بعد بدر، ورأيت بقراً تذبح فأولتها قتلى في أصحابي} هكذا كان في معركة أحد حيث قتل طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم -وهي حق- ما رواه البخاري وروى مسلم أوله من حديث سمرة وهو حديث طويل فيه: {أن ملكين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم هما جبريل وميكائيل، فقالا له: انطلق، فأتيا به على رجل مضطجع وعنده رجل يضربه بالحجر، فيشق رأسه فيتدهده الحجر، فيأتي الرجل به، فإذا رأس المضطجع قد التأم، فيضربه به مرة أخرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ فقالا: انطلق، قال: فانطلقا بي، فإذا برجل مضطجع على جنبه، وعنده رجل قائم بكلوب من حديد فيضعه في شقه، ثم يشقه حتى يبلغ به أذنه، ثم يضعه في منخره فيشقه، ثم يضعه في عينه فيشقها، فإذا انتهى ذهب إلى الشق الآخر، فعاد الأول كما كان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ماهذا؟ فقالا: انطلق، قال: فانطلقا به فإذا بنهر أحمر كالدم، وإذا به رجل وعند جانب النهر رجل عنده حجارة، فإذا جاء هذا الرجل الذي في النهر يخرج ضربه بالحجر فوضعه في فمه، فعاد إلى وسط النهر، فقلت: ما هذا؟ فقالا: انطلق، فأتيا بي على شيء مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، وإذا فيه رجال ونساء عراة، إ