ظاهرة الملتزمين وانعزالهم عن المجتمع

Q المجموعة الأولى تدور حول الالتزام، والالتزام ظاهرة محببة والحمد لله، والأسئلة التي جاءت عن الالتزام دارت حول موضوعين: جزء من الشباب يرى أنه يسمع الغناء، ويعزف العود، ويقصر في صلاة الجماعة، ويستهزئ بالملتزمين أيضاً، ويرغب من فضيلة الشيخ أن يوضح له كيف يبتعد عن ذلك.

الجزء الثاني من الأسئلة: يعتب على الملتزمين ويقول: إنهم لا يختلطون بغيرهم، ولا يصحبونهم في رحلاتهم واجتماعاتهم، وقد يكون في بعض عباراتهم فضاضة قد تنفر من يرغب في الالتزام، أو من يميل إلى الالتزام، هؤلاء وهؤلاء يرغبون في كلمة من الشيخ توضح لهم كيف ينتهجون؟

صلى الله عليه وسلم بالنسبة للأسئلة الأولى فهي ظاهرة إيجابية؛ لأنه -كما ذكرت لكم في مطلع الحديث- ليس منا إنسان لا يخطئ، بل كل الناس كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون} .

فليست المشكلة أن الواحد يخطئ، بل أحياناً الخطأ طريق الصواب، ورُبَّ معصية يدخل بها الإنسان الجنة؛ لأنه وقع في خطأ فبعد ذلك استيقظ قلبه، وصارت هذه المعصية أمام وجهه دائماً وأبداً، فيكثر من الأعمال الصالحة والاستغفار والتوبة، حتى دخل الجنة، وعلى العكس رُبَّ طاعة أوردت الإنسان النار والعياذ بالله هي الطاعة، لكنه عمل الطاعة فصار مدلاً بنفسه معجباً بها، ويشعر أنه فعل وأدى ما عليه، فيصل والعياذ بالله إلى الدرك.

فمجرد وقوع الإنسان في خطأ ليس هو المشكلة، لكن المشكلة الحقيقية أن يصبح الخطأ عندي وعندك صواباً، لأننا ألفناه وأصبحنا ندافع عنه ونستمرئه.

يا أخي! إن الله فتح أبواباً، يقول ربنا في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قال الله تعالى: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم} انظر! ربنا سبحانه وتعالى، الرب الكريم الرحيم الجواد المتعطف على عباده، يتعرض لهم: اسألوني ادعوني اطلبوا مني استغفروني: {يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم} .

هل هناك أحد يحول بينك وبين استغفار الله؟ لا يوجد أحد، ونوح عليه السلام كان يقول لقومه: استغفروا ربكم، ألف سنة إلا خمسين عاماً، قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] حتى الدنيا تحصلون عليها، لو أن أنساناً استقام وصلح، فهل يخسر شيئاً؟ والله العظيم -وأحلف بالله ولا أستثني- والله الذي لا إله غيره إن أسعد طبقات الدنيا من آدم إلى قيام الساعة هم المتدينون، الصادقون في تدينهم في الدنيا قبل الآخرة.

يا أخي! الملتزم الصادق عنده لذة الدنيا بجميع ما فيها لذة الشرب والأكل، والنساء، والمال، والحياة الدنيا نفسها هي عنده مضاعفة، ومسكين الذي لا يسلك هذا الطريق، بل هو في خسران بكل المقاييس، فالالتزام والتدين الحق هو للدنيا قبل الآخرة، ولهذا يقول نوح لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] .

فالالتزام لن يخسرك شيئاً أبداً، وحتى هذه الذنوب التي يرتكبها الإنسان، ثم يستغفر الله منها، فإن الله غفور رحيم، لكن على الإنسان ألا يصر على الذنب أولاً، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] .

الشيء الثاني: عليه أن يملك قلباً منيباً أوّاباً رجّاعاً، سليماً: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] .

فمثلاً: الإنسان الذي يسخر بالملتزمين -كما قال في السؤال- هذا لا يملك قلباً سليماً، وليس بصادق، وإلا فكيف يسخر بمن يتمنى أن يكون مثلهم؟! وكيف يسخر بمن يعتقد أنهم على الصواب وهو على الخطأ؟! أليس هذا من حجب الحقيقة وسترها إذ أنه يعرف ويستر؟ والإنسان الذي عنده معصية، ولكنه يملك قلباً فيه صلاح، تجده إذا رأى الأخيار أحبهم، ويقول: ياليتني أكون يوماً مثلكم! أرجو الله ألا يحرمني يوماً من الدهر أن أكون منكم! فيحبهم، ويقدرهم، ويواليهم، ويدافع عنهم، هذا هو القلب السليم، ولو كان عنده ذنب أو تقصير.

لكن أن تكون القضية بالعكس، أن يشعر أنه طرف وهم طرف ثانٍ، وهو في وادٍ وهو في وادٍ ثانٍ، هنا عليه أن يعيد الحساب مع نفسه.

أيها الإخوة إن أمامنا فرصاً نحن مسئولون عنها، لقد رأيت في بلاد العالم الذي يريد الهداية أمامه ألف عقبة، وقد قرأت ورأيت بعيني بعض الذين أسلموا، كالأمريكان، أو الفرنسيين أو غيرهم، رأينا تجاوزوا عقبات طويلة، أبوه يهودي، وأمه نصرانية، بيئته فاسدة وحياته وعقليته وتفكيره، ذهب إلى المكتبة ووجد أن الكتب التي فيها مشوهة عن الإسلام، سأل فما وجد من يجيبه، عنده أناس من العرب، ولكنهم جاءوا يشتغلون بالدنيا، فأمامه ألف عقبة، ومع ذلك ظل الرجل مصابراً يبحث، وفي النهاية وقع على الإسلام وأسلم.

لقد بحث وسلك طريقاً طويلة، وأنت يا أخي ليس أمامك ولا أي عقبة، ففي المعهد نشاط خيري، وفي المسجد نشاط خيري، وفي السكن كذلك، وعند أهلك، وفي البلد الذي أنت فيه إذا عدت، وفي كل مجال، المكتبات مليئة بالكتب، بل وتوزع، وكذلك الأشرطة، فمن السهل أن تحصل على الخير، فليس لك عذر -أخي الكريم- فكن صادقاً مع نفسك، ولا تمنِّ نفسك بالأعذار، هذا بالنسبة للطائفة الأولى.

أما بالنسبة للطائفة الثانية فهذا حق، فعلى الملتزم أن يكون صورة لما يدعو إليه، أولاً: ما دام أن الله قد هداه إلى الخير، هذا الخير الذي هداه الله إليه زكاته وشكره أن يدعو غيره إليه، وهذه الدعوة يجب أن تكون بالتي هي أحسن قال الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] فالدعوة بالبسمة، الدعوة بالإحسان إلى الآخرين، وبالتلطف معهم، والصبر عليهم، الدعوة في خدمتهم حتى في أمورهم الدنيوية ومساعدتهم، في دراستهم وفي أعمالهم، ومشاكلهم، الدعوة بطول النفس معهم، والحرص عليهم، هذا هو الذي يليق بالإنسان، خاصة ونحن الآن أمام جهود كبيرة موجهة إلى الشباب لإغرائهم، فهم بحاجة إلى اليد الحانية التي تنتزعهم بالأسلوب الحسن، ويبقى هناك من الناس من قد لا ينجح تماماً في هذا.

فنحن نقول: الصورة المثالية أنك أمام داعية ملتزم، مطبق لما يقول، أخلاقه عالية، صاحب ابتسامة، وكلمة طيبة، وصاحب صبر، هذا أكمل شيء.

وهناك رجل ملتزم وخير، ولكنه لا يدعو، أو يدعو لكنه يدعو بأسلوب ليس حسناً.

الثالث إنسان منحرف أو مقصر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015