تفاوت همم الناس

وهمم الناس تتفاوت، وكل إنسان له همة، ولذلك ورد في الحديث الذي رواه أصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام} لماذا همام؟ لأن ما من إنسان إلا وعنده همَّة، فيَهُم وينوي شيئاً مهما كان، فكل حيء عنده همة، لكن من الناس من همته في الدنيا، وهمته في تحصيل الزوجات، كلما حصل على امرأة طلب غيرها، ولا يزال هكذا لأنه يجد عيباً يعيب في المرأة القريبة منه، وأما البعيدة الغريبة فإنه لا يعرف عيوبها، فيستحسنها ويستمدحها ويطلبها بالحلال أو بالحرام، فالناس في ذلك أصناف، وهذا لا شك أنه ضيع همته في غير طائل، ولا ينتهي إلى نهاية.

يقول الشاعر: والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين العِين موقوف على الخطر أي: ما دام أن الإنسان له عين يقلبها في النساء، وينظر إلى هذه وإلى هذه، فمعناه أنه لن ينتهي إلى نهاية، وهو كالذي يشرب من البحر، ولذلك يقول ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر فيما معناه: من عرف النساء رضي بزوجته.

وياليت النساء يسمعن حتى نحصل على الجوائز الثمينة!! لأن الإنسان بطبيعته يضع عيوب زوجته أمام ناظريه، أما النساء البعيدات فلا يضع منهن إلا الحسن، حتى إن من الناس في هذا البلد من كان له زوجة حسناء ومع ذلك كان مبتلى بالنظر؛ فإذا رأى امرأة غريبة نظر إليها حتى تغيب عنه، وإن كان لا يفعل أكثر من هذا، فيوم من الأيام عرفت زوجته عنه هذا فتنكرت بلباسٍ، ثم مرت من عنده فوجدته ينظر إليها حتى تجاوزته، ثم ذهبت السوق الآخر ودخلت البيت فجاء الرجل ورأته مهموماً ضيق الصدر، فقالت له: مالك يا أبا فلان؟ فأبى أن يخبرها، فما زالت به حتى قال: رأيت امرأة فأعجبتني وتمنيت أن تكون لي، فقالت: هي والله أنا، وإنما عرفت ذلك من أمرك فأحببت ألا تغتر بكيد الشيطان.

فكان لا ينظر بعد ذلك إلى النساء.

وهذا أمر مشاهد بالعيان.

فمن الناس من يكون هذا شأنه، يقول ابن الجوزي: كنت أسمع فلاناً -وسماه- الواعظ على المنبر يقول: والله لقد بكيت البارحة من يد نفسي.

قال ابن الجوزي: فبقيت أتفكر.

وأقول: أي شيء قد فعلت نفس هذا حتى يبكي؟ فهو رجل متنعم، له الجواري التركيات، وقد بلغني أنه تزوج في السر بجملة من النساء، ولا يطعم إلا الغاية من الدجاج والحلوى، والدجاج في ذلك الوقت يعتبر أفخر أنواع اللحوم، وله الدخل الكثير والمال الوافر والجاه العريض، والإفضال على الناس، وقد حصل طرفاً من العلم واستعبد كثيراً من العلماء بمعروفه، وراحته دائمة -وهذا الكلام لـ ابن الجوزي وكأني أحس أن الإمام ابن الجوزي رحمه الله غير راضٍ عن هذا الشخص- يقول: فما الذي يبكيه؟ فتفكرت في هذا فعلمت أن النفس لا تقف على حد، بل تروم من اللذات ما لا منتهى له، وكلما حصل لها غرض برد عندها وطلبت سواه، فيفنى العمر ويضعف البدن، ويقع النقص ويرق الجاه، ولا يحصل المراد؛ وليس في الدنيا أبلد -أي: أكثر بلادة- ممن يطلب النهاية في لذات الدنيا، وليست في الدنيا على الحقيقة لذة.

فالسعيد من إذا حصلت له امرأة أو جارية فمال إليها ومالت إليه وعلم سترها ودينها؛ أن يعقد الخنصر على صحبتها، وأكثر أسباب دوام محبتها ألا يطلق بصره، فمتى أطلق بصره وأطمع نفسه في غيرها، فإن الطمع في الجديد ينغص الخلق، وينقص المخالطة، ويستر عيوب الخارج، فتميل النفس إلى المشاهد الغريب، ويتكدر العيش مع الحاضر القريب.

والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين العِين موقوف على الخطر فمن الناس من هذا غاية همه ونهاية همته؛ فيطمع في الزوجة بعد الزوجة، والمرأة بعد المرأة، ومثل ذلك همم الدنيا وهي كثيرة؛ الأموال والمناصب والشهرة إلى غيره ذلك.

لكن العاقل من يجعل همته في الآخرة، فإذا وصل إلى مستوى طمع إلى ما هو فوقه، فينظر إلى الصالحين والزهاد والعباد، ولذلك تجد كثيراً من الناس اليوم لو سألته: من تحب أن تكون مثله في الدنيا؟ لبحث عن أكثر الأثرياء والأغنياء، وقال: مثل فلان.

لكن لو سألته في الدين والآخرة هل يقول: مثل فلان الزاهد، أو فلان المجاهد، أو فلان العابد، أو فلان العالم؟! قلَّ من يقول ذلك! بل تجده يقول: يكفيني أن أصلي الفروض الخمسة في المسجد، وعسى الله أن يعيننا عليها، وعسى أن نقوي أنفسنا عليها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015