فما بال الإنسان في الدنيا قد مدَّ حبالاً عراضاً، وصاحب همة عالية، وتجده في الدين على النقيض من ذلك، والواجب أن يكون الإنسان بضد هذا؛ لأن من كانت همته الدين فلا يعني هذا أنه قد فقد الدنيا، فوالله الذي لا إله غيره إن المتدين تديناً حقيقياً هو أكثر الناس استمتاعاً حتى بهذه الدنيا، فاستمتاعه بالمال أعظم من استمتاع غيره، واستمتاعه بالطعام والشراب أعظم من استمتاع غيره، واستمتاعه بالزوجات أعظم من استمتاع غيره، وذلك لأسباب: منها: أنه مرتاح البال، يحس بأنه فعل ما يرضي الله، ولم يرتكب معصية أو محرماً، ويعلم أن هذا من حلال.
ومنها: أنه قد منع نفسه من الحرام فتجمعت قوته لذلك، فقد منع نفسه من كثرة النظر وارتكاب الفواحش وغيرها، فتجمعت قوته في مصب واحد، فكان أكثر متعة من غيره.
ومنها: أنه منع نفسه من التشتت في أنواع التجارب، مثلاً -عافانا الله وإياكم- من يبتلون بالوقوع في الزنا، تجد الواحد منهم ذواقاً لا يكاد يقف عند حد ولا ينتهي إلى غاية، بل كلما وقع في المعصية دعته إلى معصية أخرى وجرته إلى شر منها، فهو مثل الذي يوقد النار ويضع عليها الحطب فلا يزال في سعير.
أما المطيع الذي اقتصر على الحلال، فإن الله عز وجل يورثه ويعوضه في الدنيا من الأنس بذلك واللذة ما لا يجده الذواقون وأصحاب الشهوات، وشتان بينهما.
ومن أسباب تلذذ المؤمنين واستمتاعهم بهذه الدنيا: أن الواحد منهم يستشعر أن في هذا طاعة لله عز وجل وقربة إليه، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: {وفي بضع أحدكم صدقة} حتى وهو يأكل أو يشرب أو يأتي أهله أو ينام؛ يحس أن هذا يكتب له به أجر وله به صدقة، وهو في ميزان حسناته، فيفرح بذلك ويسر له، فحتى الدنيا والله فاز الصالحون بخيرها، فالخيرون والطيبون والمتدينون ذهبوا بخيري الدنيا والآخرة.
أحبتي الكرام: لنتأمل أي خير في أموال طائلة لا يجني منها صاحبها إلا الهم والحزن؟! وأي خير في لذات عاجلة ذهبت وبقي الإثم؟! وأي خير في منصب لا يجني الإنسان من ورائه إلا السب والشتم واللعن والدعاء من الصالحين؟! فأي خيرٍ في مثل هذه الأعمال؟ لا خير فيها -والله- أبداً.