الإيحاء السابع: زيادة العمر للمؤمن خير.
روى الترمذي عن أبي بكرة رضي الله عنه: {أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من خير الناس؟ قال: من طال عمره وحسن عمله، قال: فمن شر الناس؟ قال: من طال عمره وساء عمله} قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وللحديث شواهد عن عبد الله بن بسر وأبي هريرة وجابر رضي الله عنهم أجمعين.
فطول العمر للمؤمن خير، ويعجبني أن أنقل لكم كلمتين لإمامين في مسألة طول العمر.
الكلمة الأولى: لـ ابن الجوزي رحمه الله يقول في كتاب صيد الخاطر (ص114) يقول: دعوت يوماً فقلت: اللهم بلغني آمالي من العلم والعمل، وأطل عمري لأبلغ ما أحب.
قال فعارضني وسواس من إبليس، فقال: ثم ماذا؟ أليس الموت؟ فما الذي ينفع طول الحياة؟ فقلت له: يا أبله - ابن الجوزي يحاور إبليس وهو يعاتبه ويخاطبه ويوبخه- لو فهمت ما تحت دعائي وسؤالي لعلمت أنه ليس بعبث، أليس في كل يومٍ يزيد علمي ومعرفتي، فتكثر ثمار غرسي يوم حصادي؟ أفيسرني أنني مت منذ عشرين سنة؟ لا والله، لأني ما كنت أعرف الله تعالى معرفتي به اليوم، وكل ذلك ثمرة الحياة التي فيها اجتنيت أدلة الوحدانية، وارتقيت عن حضيض التقليد إلى يفاع البصيرة، واطلعت على علوم زاد بها فيها قدري، وتجوهرت بها نفسي، ثم زاد غرسي لآخرتي، وقويت تجارتي في انقاذ المباضعين من المتعلمين -أي: في الدعوة إلى الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور- فياليتني قدرت على عمر نوح، فإن العلم كثير، وكلما حصل منه حاصل نفع ورفع.
ما أجمل هذا الكلام! فإن بعض الناس من التزهد والتوعظ قد يقول لك: يا ليتني أموت الآن، فقد كثرت المعاصي وكذا وكذا، وهذا بسبب أنه لا يعلم خيراً، ولا ينفع الناس، لكن ابن الجوزي رحمه الله لأنه كان واعظاً، وربما تاب في مجلسه الواحد مائة وخمسون من العصاة، وأسلم على يديه مئات من أهل الذمة، وله أثر عظيم ملموس، لذلك كان يقول وينادي: يا ليتني قدرت على عمر نوح، فإن العلم كثير، وكلما حصل منه شيء نفع ورفع.
أما الكلمة الأخرى فإنها كلمة لأحد الدعاة المهتدين المعاصرين، وهو الشيخ الأستاذ سيد قطب رحمه الله يقول في كتابه أفراح الروح؛ وهو كتاب لذيذ مفيد لو حفظ لم يكن هذا كثيراً عليه، يقول في (29) : لم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة، لقد أخذت من الحياة كثيراً -أعني: لقد أعطيت- ولقد عملت بقدر ما كنت مستطيعاً أن أعمل، وهناك أشياء كثيرة كنت أود أن أعملها، لو مدَّ لي في الحياة، لكن الحسرة لن تأكل قلبي إذا لم أستطع، إن الآخرين سوف يقومون بها، إنها لن تموت إذا كانت صالحة للبقاء، فأنا مطمئن إلى أن العناية التي تلحظ هذا الوجود لن تدع فطرة صالحة تموت -أي: الأفعال التي يريد أن يعملها ولم يستطع أن يعملها يقول: سوف يوفق الله من يعملها من بعدي- فلم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة، لقد حاولت أن أكون خيراً بقدر ما أستطيع، أما أخطائي وغلطاتي فأنا نادم عليها، وإني أكل أمرها إلى الله، وأرجو رحمته وعفوه.
ثم يقول: -وأريد من الإخوة أن يبينوا لي ما رأيهم في هذه الكلمة-: أما عقابه فلست قلقاً من أجله، فأنا مطمئن إلى أنه عقاب حق وجزاء عدل، وقد تعودت أن أتحمل تبعة أعمالي خيراً كانت أو شراً، فليس يسوءني أن القى جزاء ما أخطأت حين يقوم الحساب.
أما نحن فنقول: رحمه الله وغفر لنا وله.
وأنا في رأيي أن هذه الكلمة -وإن كانت ولا شك صادرة عن شعور معين عند الرجل- لكن فيما يظهر من حقيقة معناها أنها ليست سليمة؛ لأن الواقع أن العبد ينبغي أن يخاف من ذنوبه، فكما أنه يرجو الله تعالى لأعماله الصالحة، كذلك يخاف من ذنوبه، وهذا هو منهج الأنبياء والمرسلين، قال الله عز وجل: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] .
لكن الإنسان -أحياناً- قد يغيب عنه أحد هذه المعاني، فيدعو الله رغباً فحسب، أو رهباً فحسب، أو حباً فحسب، وهذا -لا شك- يعتبر نقصاً، والكمال ما كان عليه الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام، فإنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعون الله تعالى رغباً ورهباً، أي: رغبةً فيما عنده.
وخوفاً من عقابه، فينبغي للعاقل أن يخاف من ذنوبه، لأن الله تعالى لو عاقب الإنسان بذنوبه لأدخله ناره وحرمه من رحمته، لكن يستغفر الله ويسأله عز وجل من فضله.