ولذلك تجد هذا الإنسان الذي يعبد ربه بهذه الطريقة، بقدر ما هو ذليل لله، تجده عزيزاً عند الناس، عزيزاً بشكل لا يمكن أن يخطر في بالك، يمكن أن تذهب روحه ولا يذل نفسه.
أحد العلماء سجن، وحكم عليه بالإعدام، فجاءه بعض الناس يتوسطون، وقالوا له: نريد منك أن تكتب كلمة واحدة تعتذر فيها إلى الحاكم؛ من أجل أن يطلق سراحك ويعفو عنك.
فقال: إن السبابة التي تشهد أن لا إله إلا الله، لا يمكن أن تخط كلمة واحدةً تقر بها حكم طاغوت ورضي -فعلاً- أن يقتل، ويعلق على المشنقة وهو يبتسم؛ لأنه يرى أن المسلم أعز من أن يسترحم للباطل أو يذل له.
المسلم الحق قد يموت ولا يمد يده لأحد يسأله، ولهذا جاء جماعة من الصحابة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فأسلموا وأوصاهم بأشياء، فكان من ضمن ما أوصاهم به عليه الصلاة والسلام أن قال لهم: {لا تسألوا الناس شيئاً} فكان أحدهم -لاحظ التطبيق- يسقط السوط من يده وهو على البعير، فلا يقول لأحد: أعطني السوط؛ بل ينزل ويأخذ السوط ثم يصعد مرة أخرى، حتى كلمة اعطني السوط لا يقولها! إذاً الذل لله تعالى هو العز، والفقر إلى الله تعالى هو الغنى، وهذه قضية أساسية في الدين، فالعبادة تقوم على الذل، وكل حب يقوم على الذل، فالعشاق -مثلاً- والمحبون، تجد أن أبرز صفات العاشق -في التاريخ والأدب والواقع- تجده ذليلاً لمن يحب، حتى لو طلب منه أن يعمل أبشع الأعمال وأسوأ وأحط الأعمال، فإنه يفعلها من أجله ولا يتردد، بل يعتبر هذا شرفاً له، لماذا؟ لأنه يعتبر هذا من التعبير عن الحب، ولهذا يقول الشاعر: مساكينُ أهلُ الحب حتى قبورُهم عليها غبارُ الذل بين المقابر فإذا كان العبد يحب الله تعالى، فمعناه أنه لا بد أن يعترف له بالذل، أنه ذليل بين يديه، منكسر ومفتقرٌ إليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] ليس الفقر في المال فقط؛ بل هذا النَّفَسُ الذي هو سر حياتك الذي يدخل ويخرج، هو يتحرك بإدارة الله تعالى، ولو شاء الله تعالى لحجزه وانتهت حياتك، فالفقر فطري في الإنسان.