ومن هنا نلاحظ أن أساس العبادة وصلبها يقوم على أساس أنه يوجد إنسان ذليل، وهناك رب عزيز، فالذي ليس عنده استعداد؛ لأن يذل نفسه، لا يمكن أن يكون عابداً أبداً، ولا يمكن أن يكون مسلماً أبداً، لكن لا يذل نفسه للشهوة ولا للطاغوت ولا للناس مهما كانوا، إنما يذل نفسه لواحد فقط وهو الله.
انظر إلى العبادة كيف هي، أعز ما في الإنسان، وأكرم ما عليه وجهه، ولهذا الإنسان إذا أراد أن يهين آخر، يسيء إليه في وجهه، بحركة أو بقول أو بكلام أو بضرب، ولهذا من باب تكريم الإسلام للوجه وللإنسان، أن الرسول عليه السلام قال: {إذا قاتل أحدكم أخاه -أي ضاربه- فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته} أي لا تضرب الإنسان في وجهه، حتى لو أردت أن تؤدب ولدك، أو من هو أصغر منك تؤدبه، لكن لا تضربه على الوجه، اضربه في أي موضع آخر، الوجه له تقدير وتكريم، لأن الله تعالى كرم الإنسان، فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] وأجمل وأحسن وأعلى ما في الإنسان وجهه، وهو لذلك مجمع الحواس، فالسمع، والبصر، والذوق، والشم، وكذلك العقل الذي يفكر به الإنسان، كلها تجتمع في رأس الإنسان.
إن العبادة التي يطالب المسلم أن يعملها، تتعمد أن يذل هذا الإنسان أعز ما فيه -وهو هذا الجزء المهم من جسمه - بذله لله فقط؛ لأن الذل لله تعالى عز، ولن تجد في الدنيا كلها عزاً أعظم من أن تذل لله تعالى.
إذاً: رحى العبادة تدور على الذل، فتجد أن الإنسان إذا صلى فأول ما يفعله أن يطرق رأسه مطأطئه، لا ينظر يميناً ويساراً، وفوق وتحت؛ بل تجد أن المصلي العابد حقاً وجهه في الأرض، ينظر للأرض، عيونه مثبتة في موضع السجود، لا يلتفت يمينه ويساره، ونهى الرسول عليه السلام عن الالتفات، وقال: {هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد} هذا وهو واقف.
فإذا ركع تجده يطأطئ رأسه، والقيام والركوع في الصلاة تمهيد لغاية الانكسار لله وهو السجود، حيث يهبط الإنسان ويهوي إلى الأرض فيجعل جبهته على التراب -ليس شرطاً على التراب- إنما على الأرض، على فراش أو على شيء يسجد عليه، المهم أنه جعل أعز ما فيه أسفل شيء من جسده -وهو وجهه- جعله على الأرض، ثم يقول: سبحان ربي الأعلى.
أي: في الوقت الذي أنا فيه ساجد، إنما جعلت جسمي كله في الأرض اعترافاً بألوهية العلي الأعلى، واعترافاً بأنه هو المستحق وحده للعبادة.