الإيحاء السادس: علو الهمة.
كل شيء كبير خطير، يطول طريقه ويكثر التعب في تحصيله.
ألم تر كيف أن الإنسان إذا توجه إلى طلب العلم احتاج إلى سهر الليل وتعب النهار، والسهر بالأسحار والظمأ والتعب وتفويت المصالح والانكباب، وربما أصابه جهد في بدنه أو ضعف في بصره، أو فاته كثير من مصالحه حتى يحصل على شيء من العلم الشرعي.
حتى قال أحد الفقهاء: والله لقد بقيت سنة أشتهي الهريسة ولم أحصل عليها، وذلك لأن وقت بيعها كان وقت سماع الدرس، والهريسة طعام من الحلوى اللذيذة، ويمكن أن نعبر عنها بلغتنا الحاضرة بما يسمونها بالجميدة، مع أن الهريسة شيء آخر لكن هذا مثال، فطالب العلم يريد أن يروح عن نفسه فيأكل بعض الأطعمة التي يستحليها الناس ويستحسنونها، والجميدة هي ما يشتهر على ألسنة العامة بالآيسكريم، وقد اقترح بعضهم أن تسمى بالجميدة، وهذا اسم لا بأس به، فيكون تعويضاً عن اسم أجنبي لأن الآيسكريم اسم غير عربي.
المهم أنه يقول: بقيت سنة أشتهي الهريسة ما أكلتها؛ لأن وقت بيعها كان وقت سماع الدرس.
ففاته هذا من أجل ألا يفرط في خمس دقائق في حضور درس العلم.
وقل مثل ذلك بالنسبة لتحصيل المال، كيف ترى التاجر يبذل من الوقت والجهد في تحصيله؟ كذلك الشرف، فإذا أراد الإنسان أن يحصل على شرف بالكرم والجود ويوصف بأنه جواد كريم، تجده يجمع الأموال الطائلة ثم يفرقها بمناسبة أو وليمة أو عزيمة أو غيرها، وعلى الفقراء والمساكين والمحتاجين، فكم يتعب في تحصيل المال، ثم يجاهد نفسه لأن المال محبوب عند الجميع، ومن قال إنه لا يحب الدنيا فكأنه يكذب في ذلك.
وهكذا كل أمر عظيم جليل لا بد فيه من علو الهمة، فما بالك بإنسان يريد أن يحصل ذلك كله! وما بالك بأقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها! فهم يريدون أن يحصلوا على العلم وعلى العمل بأكمله، فلا بد أن يكون عندهم همة عالية.