لذلك أسباب أرى أن من أهمها ما يلي: أولاً: رؤية الهوى العاجل.
فإن ذلك يشغل عن العواقب، ويوقع في المعصية، فإذا رأى الإنسان هوىً لاح له ربما استغرق في هذا الهوى حتى يغفل عن عواقبه.
مثاله: إنسان يدري أن الزنا حرام، وأن عواقبه في الدنيا وخيمة، من سواد الوجه والفقر والذل والوقوع في المحرمات وأنواع العقوبات، ثم العقوبة في الآخرة وهي عظيمة، ومع معرفة ذلك كله، فإنه ربما رأى امرأة جميلة فتعلق بها، فدعاه داعي الشهوة الحاضرة وغلب عليه، حتى غطى على العلم الذي في قلبه، فالسبب الأول: هو اتباع الهوى.
وقل مثل ذلك في المال، فالإنسان يعرف أن الربا حرام، لكن جاءته صفقة بالملايين فرأى أنه لا يستطيع أن يفرط بها، وهو يعرف أنها حرام، لكن داعي الهوى والشهوة والتعلق بذلك أغفله عن العمل بالعلم الذي يعرفه.
ثانياً: الغفلة.
وأكثر الناس غافلون، فتجد السلطان غافلاً في الأمر والنهي، لا يكاد يسمع موعظة أو نصيحة إنما يسمع المديح والثناء، فتحجب عنه عيوبه وذنوبه ومساويه، وترفع له حسناته، بل يختلق من غير الواقع له حسنات وفضائل لم تكن له، فتلصق به وتدعى له، ويسمعها بأذنه صباح مساء، فلا يزال في غفلة وغرور وهو ينتقل في شهواته ومطامعه في ذلك، فهو غافل عما خلق له.
وتأتي -مثلاً- إلى طبقة أخرى وهي التجار؛ فالتاجر مشغول بأمواله وصفقاته، حتى إنه ربما أوى إلى فراشه فتقلب ساعات وهو يدير أموره وأمواله وحساباته، وربما أذن الفجر وهو لم ينم، وربما لم يستمتع حتى بدنياه، فزوجته إلى جواره قد لا يستمتع بها، والطعام يوضع بين يديه فلا يأكله، لماذا؟ لأنه مشغول غافل مستغرق في الدنيا وفي هذا المال الذي يركض وراءه.
وتأتي إلى صاحب الوظيفة وصاحب المنصب الذي أعطي منصباً ونسي المسكين أن الكرسي دوار! فصار يتطلع إلى كرسي أكبر، ويعد العدة ويخطط الخطط والوسائل.
وأستار غيب الله دون العواقب ويتذرع بوسيلة بعد وسيلة يتطلب منصباً أعلى، حتى سقط على رأسه وذهب تشيعه اللعنات مأزوراً غير مأجور، كما قال صلى الله عليه وسلم: {شرار أئمتكم الذين تلعنونهم ويلعنونكم، وخيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم} فيغفل في طلب وظيفته وكرسيه حتى يأتيه ما يبعده عنها، فإن بقي فيها فالموت له بالمرصاد.
تأتي إلى طبقة الفلاحين فتجدهم مشغولين.
وتأتي إلى طبقة النساء فتجدهن مشغولات.
وتأتي إلى الطلاب فتجدهم مشغولين.
وكل طبقة مشغولة غافلة لاهية مستغرقة بعمل معين، لا تفكر في الأمر الذي خلق له كل هؤلاء.
ثالثاً: من أسباب تأجيل التوبة رجاء الرحمة.
فيقول العاصي: ربي غفورٌ رحيم، خلِّ بيني وبين ربي، ونقول: هذا صحيح، ولكنه شديد العقاب! وكيف تأمن من هذا الغفور الرحيم الذي شرع في هذه الدنيا أن تقطع اليد في مالٍ يسير؟ فالنصاب الذي تقطع فيه اليد هو ثلاثة دراهم، إذا توفرت الشروط، فكيف تأمن مع ذلك أن يعاقبك ويأخذك بذنبك؟ وكيف تأمن أن يرد توبتك؟ ورب إنسان يدخل النار في ذنب واحد! ألم تعلم أن آدم أخرج من الجنة بذنب واحد؟! تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان بها وفوز العابد ونسيت أن الله أخرج آدماً منها إلى الدنيا بذنب واحد! والواحد منا يفعل في اليوم الواحد من الذنوب ما لا يعلم به إلا الله، فرجاء الرحمة -أحياناً- يغفل الإنسان.
وإن هذه مناسبة للتوبة، فإننا الآن في شهر الله المحرم، وفي بداية العام، وقد تاب الله في هذا الشهر على قوم؛ فقد تاب على بني إسرائيل كما ورد في حديث وإن كان فيه ضعف: {إن الله تاب فيه على قومٍ ويتوب فيه على آخرين} فاجعل نفسك ممن تاب الله عليهم في هذا الشهر، خاصة وأنك تتذكر أنك انتقلت من مرحلة إلى أخرى، وتذكر وأنك إن لم تتب فإن الله تعالى قد يأخذك بذنبك: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97-99] .
قد يؤخذ الفرد بذنبه، وقد تؤخذ الأمة بذنبها أيضاً، فإنه لا أحد يعلم الموازين عند الله جل وعلا، فقد تفعل ذنباً مستهيناً به فيسخط به الله تبارك وتعالى عليك، ويقول: لا أغفر لك بعدها.
وقد يأخذك الله به في هذه الدنيا ويعجل لك به العقوبة، فيأخذك أخذ عزيز مقتدر، وحتى لو أبطأت وأجلت في التوبة، فما هو الذي يؤمنك إذا أخرت التوبة، ألا يبقى أثر الذنب عندك؟! ألم تعلم أن آدم عليه السلام لما أتاه أهل الموقف ليشفع لهم اعتذر بذنبه، وموسى اعتذر بذنبه، وإبراهيم اعتذر بذنبه، مع أنهم قد تابوا منها لكن منعتهم من الشفاعة.
فما الذي يؤمنك إن ظللت مقيماً على ذنوبك أن يسود بها وجهك، ويتغير قلبك، ويفسد بها طبعك، ويضيق بها رزقك، ويتكدر بها عيشك؟ فسارع إلى التوبة قبل أن يكتب عليك.