أشير إلى أمر يمكن أن يعتبر نوعاً من الحصار، ربما نعتبره نوعاً رابعاً، وهو: فصل الداعية والدعوة عن المجتمع.
وهذا أمر خطير، يعمل أعداء الإسلام فيه على قناتين، القناة الأولى: على قناة المجتمعات، فأعداء الإسلام يحاولون تلويث البيئة العامة وتلويث المجتمع.
خذوا على سبيل المثال: المخدرات كيف تفتك بالمجتمعات الإسلامية بشكل غريب، قضية ما يسمى بالبث المباشر، أفلام الفيديو، أوكار الدعارة والبغاء والفساد، وبيوت الربا، إلى غير ذلك من المؤسسات الكثيرة، التي تهدم في داخل المجتمع المسلم، وتحاول أن تلوث البيئة العامة، ليست مجرد مفاسد مستترة، لأن الفساد إذا كان مستتراً كأن يكون رجل واحد في بيته فساد، فهذا أمره هين، ولا يضر إلا نفسه، المشكلة الكبيرة، هي حين يتحول المجتمع إلى مجتمع منحرف، تعلن فيه صور الانحراف والرذيلة والفساد، وتستقر حتى تصبح عرفاً مستقراً عاماً، لا أحد يستطيع أن ينكره أو يغيره، هنا تكون البيئة فسدت، فأعداء الإسلام يحاولون من جهة أن يبالغوا في إفساد البيئة، وينشروا مثل هذه الوسائل التي تساهم في تضليل الأجيال وصدها عن دين الله عز وجل.
ومن جهة أخرى -أيضاً فيما يتعلق بالمجتمع- يحاولون أن يبينوا للناس: إن الدعاة سيخرجونكم من أمورٍ قد ألفتموها وعرفتموها، فإذا أراد أعداء الإسلام أن يتحدثوا عن داعية، قالوا: أتدرون إلى ماذا يدعو هذا الإنسان؟ يدعوكم إلى أن تتركوا كذا وكذا، وتتركوا التعامل بكذا، أمور قد تعودنا عليها، فبمجرد ما نعرف أن إنساناً ويحذرنا منها نشمئز منه، كما كان زعماء قوم نوح يقولون لهم: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23] فيذكرون لهم أسماء هذه الأصنام المحببة إليهم الأثيرة في نفوسهم (لا تذرن آلهتكم) أي: هذا شُغلكم أنتم، لا تتركوه من أجل فلان أو فلان.
وفي كثيرٍ من الآيات القرآنية، يقول تعالى: {لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عليهِ آبَاءَنَا} [يونس:78] إذاً أنت تريد أن تُغيِّر وضعاً مستقراً وعرفاً قائماً في نفوس الناس، فهذا مدعاة إلى أن يرفض الناس هذه الدعوة.
فمن جهة يحاول أعداء الإسلام أن يفسدوا المجتمع، وأن يزيدوا من تشبث وتمسك المجتمع بالانحرافات الموجودة فيه، ومن جهة ثانية: يحاول الأعداء أن يضغطوا على الدعوة الإسلامية، بكافة الوسائل وأنواع الحصار، حتى -أحياناً- بالاعتقال، والتعذيب، والإنهاك، والقتل، إلى غير ذلك، وهذا من أجل أن يكون تفكير هؤلاء -الذين يحملون الدعوة- أن يكون تفكيرهم تفكيراً غير معتدل؛ لأن الإنسان إذا كان يُفكِّر في جوٍ من الكبت والضغط، غالباً يكون تفكيره يتجه نحو العنف، واستخدام القوة والشدة في مواجهة هذا الوضع الذي يعيشه، وهذا يريده الأعداء -أحياناً- ليستعدوا على الدعوة، ويُحولوا الأمر إلى صراع بينها وبين المجتمع.
ولذلك تلاحظون اليوم -أيها الإخوة- خاصةً في الصحافة الغربية، وأبواق أعداء الإسلام في البلاد الإسلامية، أن هناك تركيزاً على موضوع الصحوة الإسلامية، والتقارير يوماً بعد يوم من مراكز الدراسات الغربية، في أمريكا، وفي أوروبا وفي روسيا عن الخطر الإسلامي، وعن الصحوة الإسلامية، وعن مستقبل الصحوة، وعن أشياء كثيرة، وهذه التقارير المختلفة والتي تخرج يومياً، وعشرات الكتب -ولابد أنكم جميعاً عندكم خلفية عن مثل هذا الأمر- المقصود منها الاستعداء على الإسلام، يريدون أن يقولوا للناس: احذروا الإسلام فالإسلام خطرٌ قادم يهددكم ويريدون أن ينشبوا صراعاً بين الإسلام وبين المجتمعات الإسلامية.
ولذلك فإنني أقول: إن الحل في هذا الأمر، هو أن يدرك الدعاة إلى الله عز وجل، أن من الضروري أن ينغمسوا في المجتمعات.
ما قيمة الداعية إذا خرج عن مجتمعه؟ الداعية في المجتمع كالسمكة في البحر، فإذا خرج منها فقد جدواه وفقد معنى كونه داعية.
فالواجب على الداعية أن ينغمس في المجتمع ويدخل في الناس، يتعرف إليهم ويعرفهم بنفسه، لا يجوز أن يكون الداعية لغزاً غير معروف بين الناس، بل ليعرف الناس ماذا تدعو إليه، ومن أنت، وما هي أخلاقك، وما هو أسلوبك، وما هو منهجك، ولتكن واضحاً معهم.
كما أنه يجب على الداعية أن يكون محبوباً لدى الناس، بحسن الخلق والتلطف وتحمل الأخطاء من الناس ومداراتهم، ومدارة الناس صدقة، كما ورد عن جمع من السلف، وهي تختلف عن المداهنة أو الإدهان في الدين، المداراة مطلوبة، دفع بعض الشر ببعض، واتقاء أعظم الشرين وجلب خير الخيرين، والتلطف مع الناس في الدعوة، والتحبب إليهم والابتسام في وجوههم، ومحاولة إعطائهم صورة حسنة عن الدعوة إلى الله عز وجل.
من أعظم المكاسب التي يمكن أن يحققها الدعاة إلى الله تعالى: أن يلتحموا بالمجتمع، ويتبنوا هموم المجتمع وآلامه ومشاكله؛ ليكونوا هم جزءاً منه، كما أن من الواجب عليهم أن يسعوا سعياً حثيثاً إلى دفع الفساد الذي يجتاح المجتمعات الإسلامية، ولذلك كم هو حسن وجميل، أن يسعى الدعاة إلى الله تعالى إلى إيجاد مراكز ومؤسسات وأجهزة، تسعى إلى إصلاح المجتمع بشكل عام.
صحيح أن هناك جهات لإصلاح الشباب -أحياناً- نشاطات خاصة بالشباب، أو مراكز أو مخيمات، أو ما أشبه ذلك، لكن من الواجب -أيضاً- أن نسعى إلى إصلاح المجتمع شيباً وشباباً، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، وكافة الطبقات يجب أن نوصل إليها كلمة الإسلام؛ لنحول دون هذا الانفصال الذي يسعى إليه الأعداء؛ للوقيعة بالطرفين بكل حال.