القسم الأول: الحصار المادي والاقتصادي، حتى الحصار البدني، ولعل من أكثر النماذج شهرة: ما فعلته قريش مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بما يسمى في السيرة النبوية (حصار الشعب) وهو حصار ثابت في الصحيحين، في حديث أسامة بن زيد وأبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، أو لما كان عام حجة الوداع قال: {نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر} ففي ذلك اليوم الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً، أراد أن يظهر نعمة الله تعالى عليه وعلى المسلمين بالفتح، فنزل بالخيف وهو الوادي الذي التقت فيه قريش، وكتبت فيه هذه الصحيفة الظالمة الآثمة؛ ليبين أن هذا المكان الذي كان بالأمس حورب الإسلام منه وحوصر، اليوم ينزل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فاتحاً مظفراً منصوراً، فقريش عقدت صحيفة وعلقتها بجوف الكعبة، ألا تبايعهم ولا تشاريهم ولا تتزوج منهم ولا تزوجهم، حتى يسلَّم إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ومكثوا على ذلك ثلاث سنوات -كما تقول بعض الروايات- حتى أن عتبة بن غزوان يقول -كما في صحيح مسلم-: ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله مالنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا -من كثرة ما يأكلون من الورق- ولقد وجدت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك -أي سعد بن أبي وقاص - نصفين، فاتزرت بنصفها واتزر سعد ٌ بنصفها، فما أصبح اليوم منا رجل إلا وقد أصبح أميراً على مصر من الأمصار.
المهم أن قريشاً فرضت حصاراً اقتصادياً واجتماعياً على المسلمين في الشعب لمدة ثلاث سنوات، قريش التي كانت تتبجح بالكرم والجود، حتى قال زهير، كما هو معروف في قصيدته يمدح بعض زعمائهم، يقول: على مكثريهم رزق من يعتريهم وعند المقلين السماحة والبذل فما كان من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل كانت العرب تتمدح بالجود والكرم والعطاء، حتى كان عبد الله بن جدعان - وهو من أجود قريش المشهورين- كان يجعل موائداً كبيرة جداً، من العسل والطعام والبر وغيرها، ويرسل أناساً يصيحون في أطراف مكة: هلموا إلى الطعام في دار عبد الله بن جدعان، وبذلك مدحه أمية بن أبي الصلت في قصيدته التي يقول فيها: له داع بمكة مشمعلٌّ وآخر فوق دارته ينادي إلى قطع من الشيزى عليها لُبابُ البر يُلبَكُ بالشهادِ هؤلاء لما صارت الحرب مع الإسلام، نسوا كل ما تعارفوا عليه من الأخلاق والقيم والعادات والتقاليد، والأشياء التي توارثوها، وحاصروا المسلمين، حتى كان يسمع تضاغي وصراخ الأطفال في الشعب من شدة الجوع، لا تلين لذلك قلوب القرشيين، حتى إن المسلمين هاجروا إلى الحبشة فراراً من هذا الإيذاء، وبعد ذلك إلى المدينة.
وبعد ذلك يأتي دور المنافقين -أيضاً- قال الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] وكم نجد في هذا العصر من الحصار على المؤمنين في أرزاقهم، ووظائفهم، وأموالهم، وفي التضييق عليهم بكل وسيلة، فضلاً عما يشيعه كثير من أعداء الإسلام من شائعات عن المسلمين؛ لمنع نجاحهم في أي مشروع يريدونه، فإذا قام الدعاة إلى الله تعالى -مثلاً- بمشروع إصلاحي أو دعوي، أو إغاثة أو مساعدة للمسلمين في أي مكان، لا يبعد ولا يستغرب أن تجد من يشيع الشائعات الكاذبة، أن هذا المال يتلاعب به، وأن هذا المشروع لصالح فلان أو علان، أو أنه ما أريد به وجه الله، وإلى غير ذلك من الأقاويل، التي يقصدون من ورائها الحصار الاقتصادي والمالي على المؤمنين وعلى الدعاة.