اشغال الداعية ببنيات الطريق

من هذه الوسائل التي يسلكونها -مثلاً- أنهم قد يشغلون بعض الدعاة -كما يقال- ببنيات الطريق، وقد يستنزفون جهودهم في أعمال جانبية، بحيث تكون هذه الأعمال الجانبية غاية الدعاة ونهاية مقصدهم ومطافهم.

على سبيل المثال: ربما يشغلون الداعية بالوسيلة عن الغاية، فيشغلون الداعية -مثلاً- بالمنصب، الذي يخيل إليه أحياناً أنه وسيلة إلى الدعوة إلى الله تعالى، وإلى حمل الناس على الإسلام، فيشغلونه بذلك عن الحقيقة التي يدعو إليها ويعمل من أجلها، يشغلونه بالوظيفة، ويشغلونه ببعض الأشياء السياسية، عن هدفه الأعظم والأسمى الذي يهدف إليه.

من الوسائل في موضوع الاحتواء: أنهم قد يظهرون نوعاً من الإصلاحات أو نوعاً من التدين، الذي يوهم الناس بأن هؤلاء القوم معهم، فيحاولون بذلك، أو ينجحون في سحب مشاعر الناس، أو تخدير مشاعرهم، وكثيراً ما يظهر العدو الموافقة لك على ما تريد وعلى ما تقول، خاصةً حين يجد أنك جادّ فيما تدعو إليه.

وهذا أمر قد نجده في حياتنا القريبة, فلو أراد شخص منا من آخر أمراً فشعر ذلك الشخص أنك مصمم على ما تريد، وتطلبه بقوة ومستعد أن تضحي في سبيله، فإنه لا يبدأ بمواجهتك فيستثير بذلك غضبك وانفعالك، بل في البداية يقول لك: يا أخي، ما تريده سوف أنفذه وأنا مستعد, ويعطيك وجهاً يدل على الرضى والموافقة والقبول، حتى يسحب هذا الشعور الموجود عندك، ويشعرك بأنك وإياه على خطٍ واحد، ثم يُنفَّذ بعد ذلك ما يريد.

من ذلك مثلاً: النصارى فقد يظهرون للمسلمين نوعاً من التسامح أحياناً، أو يمكنونهم من العبادات, ولهذا لا غرابة أن تجد أن هناك مؤتمرات تعقد في كثير من البلاد، مما يسمونه بالحوار الإسلامي المسيحي، وهذا الموضوع عُقد له مؤتمرات كثيرة جداً في لبنان، وفي مصر، وفي أسبانيا، وفي الفاتيكان، وفي ليبيا، وفي غيرها من البلدان الإسلامية، مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي، يقولون لك: يا أخي! نحن نريد أن نسمع منك وتسمع منا، نجلس على مائدة المفاوضات، ما كان عندك من حق تقبله وما عندنا من حق نقبله، نتعاون جميعاً في حرب الشيوعية وفي حرب المادية، إلى غير ذلك من الشعارات البراقة، التي يخادعون بها بعض السذج من المسلمين.

فالهدف من وراء هذا الأسلوب: هو تفريغ الدعوة من محتواها، وتذويب هذه المشاعر الفياضة لدى المسلمين, مشاعر العداء لليهود, وللنصارى, ومشاعر العداء للشيوعيين، ولأي أمة من الأمم الكافرة.

ولذلك تجد كثيراً من المسلمين -اليوم- أصبح الواحد يخجل أن يطلق عليهم كفاراً، يخجل أن يسمي النصراني كافراً، حتى أنى قرأت في بعض صحفكم قبل وقت ليس بالبعيد، مقالاً طويلاً يدافع فيه صاحبه عن اليهود، وعن النصارى، ويقول: من الخطأ أن تفهموا أن اليهود كفار، أو أن النصارى كفار، فاليهود مسلمون والنصارى مسلمون، والله تعالى لا يطالب اليهود بأن يكونوا مسلمين مثلنا، ولا يطالب النصارى بذلك, لكن يطالب اليهود بأن ينفذوا تعاليم دينهم، ويطالب النصارى كذلك بأن ينفذوا تعاليم دينهم، كما يطالبنا نحن بأن ننفذ تعاليم ديننا!! وهذا في الواقع تكذيب للمعلوم من الدين بالضرورة؛ لأن جميع المسلمين مجمعون على أن الدين الوحيد المقبول عند الله تعالى، هو الدين الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد نسخ جميع الأديان السابقة، نسخ اليهودية، ونسخ النصرانية، حتى لو كانت غير محرفة، فكيف وقد دخل في اليهودية والنصرانية من التحريف ما تعرفون!! وهذه القضية ليست جديدة، فإن التتار حين جاءوا إلى البلاد الإسلامية، كانوا متوحشين وثنيين، فلما جاءوا إلى بلاد الإسلام، كانوا يملكون القوة والسلاح لكن لا يملكون الفكر؛ فلذلك أظهروا الإسلام، وكانت الجحافل والغزوات المتأخرة من التتار، يأتي مع جيشهم عدد من القضاة والمؤذنين والأئمة، ويحملون المصاحف ويظهرون شيئاً من الإسلام، ويدَّعون أنهم مسلمون، وقد ينطقون بالشهادتين، بل ينطقون بها، ومع ذلك كانوا يقاتلون المسلمين ويحاربونهم، وهذا أوجد الشك عند كثيرٍ من المسلمين في قضية حرب التتار، فحسم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا الإشكال: كيف نقاتل التتار وهم يعلنون الإسلام؟ حسم ذلك بفتوى مشهورة معروفة موجودة ضمن الفتاوى.

المهم أن التتار كانوا بهذه الطريقة يستميلون المسلمين إلى ألا يحاربوهم ولا يقاتلوهم، ويستسلموا أمامهم؛ لأن هؤلاء مسلمون، فكيف نحاربهم وفى صفوفهم القضاة والمؤذنون والمرشدون، ومعهم المصاحف يحملونها على أيديهم وعلى ركائبهم حيث حلوا وارتحلوا؟

طور بواسطة نورين ميديا © 2015