أولهما: مَثَلُ صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، كما يذكر ذلك عنه ابن شداد، وهو عالم كان من أصحاب صلاح الدين، فيذكر ابن شداد: أن الإفرنج لما نزلوا بيت المقدس قريباً منه، وتواصلت الأخبار إلى صلاح الدين بأنهم قد عزموا على الصعود إلى القدس، ومحاصرته، وركبوا القنابل عليه، واشتدت مخافة المسلمين من ذلك بسبب شدة بأس العدو وتسلطهم وقلة المسلمين، فاضطر الأمراء إلى الاجتماع، وتشاور الناس فيما بينهم ماذا يصنعون؟ يقول ابن شداد: ضاق صدر صلاح الدين واكتأب وحزن لذلك، وتقسم فكره، قال: فكنت جالساً معه طوال الليل، وهو يقسم الناس أقساماً، ويضع على كل قسم أحد الرجال ممن يختاره ويثق به، وكان الزمان شتاءً، وليس معنا ثالث إلا الله عز وجل، فلما بقي على الفجر قريباً من ساعة، قلت له: لعلك ترتاح، يقول: خشيتُ عليه أن يتعكر مزاجه؛ لأنه كان يتأثر، وكان فيه تعب في جسمه، فقلت لـ صلاح الدين لعلك ترتاح ساعة، يقول: فقال لي صلاح الدين: لعله جاءك النوم اذهب فارتاح أنت، يقول: فخرجت من عنده إلى بيتي، فما وصلت إلى بيتي، وأخذت بعض شأني إلاَّ وقد أذَّن لصلاة الفجر، قال: فتوضأت ثم أتيته، وكان يصلي الفجر معه، فلما أقبلتُ على صلاح الدين، إذا هو يمر الماء على يديه -يتوضأ- قال لي: والله ما جاءني النوم أصلاً -ما نمت أصلاً حتى احتاج إلى وضوء- من صلاة العشاء وهو سهران في مصالح المسلمين، وفي هذا البأس الذي نزل به، قلتُ له: علمت أنك لم تنم، قال: كيف عرفت ذلك؟ قلت له: ما بقي للنوم وقت، وأعلمُ أنك في مثل هذا الظرف لا تنام، يقول: فلما صلينا الفجر قلتُ له: قد وقع لي خاطر -خطر في بالي خاطر- وأرى أنه حق إن شاء الله، قال: وما هو؟ قال: قلت له: نَكِلُ أمر الدفاع عن بيت المقدس إلى الله عز وجل، بالإخلاد إليه، والتوكل عليه، وصدق اللجوء والإنابة إليه، والخروج من المعاصي دقيقها وجليلها.
قال: كيف أصنع؟ قال: أرى -واليوم يوم الجمعة- أنك تغتسل ثم تخرج إلى المسجد مبكراً، وتخرج صدقات كثيرة إلى الفقراء، والمحتاجين سراً، وعلي يدي من تثق بهم من الناس، تجعلهم يتصدقون على الخلق بأموالك، وتخرج من جميع المظالم، ثم تصلي ركعتين لله سبحانه وتعالى تصدق فيها، وتنكسر بين يديه، فإذا سجدت تطلب من الله تعالى بقلب منقطع إليه: أن يغيث المسلمين، وينصرهم على عدوهم، يقول: ففعل ذلك كله، ثم صلى ركعتين، وكُنت إلى جواره، قال: فسمعته يقول وهو في سجوده: إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية إلا منك، وعجزنا عن دفاع عدونا إلا بك، فإنا نستغيث بك، ونستنصرك ونعتصم بك، يقول: فابتهل إلى الله عز وجل، وبدأت الدموع تنحدر من عينيه فلما رفع رأسه من سجوده، إذا دموعه تتقاطر من لحيته.
يقول: فعلمت أننا منصورون ولابد، فلما كان في مساءِ ذلك اليوم، الذي هو يوم الجمعة جاءتنا رسالة أو رقعة من الإفرنج، فيها أن الإفرنج متخبطون، وقد ركبوا بعسكرهم إلى الصحراء -خرجوا إلى الصحراء- ووقفوا إلى قائمة الظهيرة -إلى وقت الزوال- وأنه صار بينهم اختلاف في ذلك، يقول: فلما كان يوم السبت جاءنا خبر بمثل هذا، فلما كان يوم الأحد وصل جاسوس فأخبرنا أن الإفرنج قد اختلفوا، وأن الفرنسيين منهم، وكانوا قد تحالفوا من الغربيين وغيرهم من أعداء الإسلام من النصارى، فأخبرهم الرسول -الجاسوس- الذي جاء إليهم، أن الفرنسيين يقولون: لابد من مهاجمة القدس، ومحاصرتها.
وأما من يسمون بالإنكشارية فإنهم يرون أنه لا يخاطر بدين النصرانية، يقولون: جنود عيسى لا نخاطر بهم، ولا يمكن أن نلقي بهم، سبحان الله! ما أشبه الليلة بالبارحة، الآن يوجد من أمم الكفر والنصارى، من يستميت في القتال، لأنه يريد أن يقضي على الأمة المحمدية، ويوجد من جنود الكفر واليهود والنصارى وغيرهم، من يرون أن قطرة دمٍ من كافر أغلى من المسلمين أولهم وآخرهم، فهكذا كان الأمر، فحصل بينهم خلاف أدى إلى أنهم ينسحبون من هذا الموقع، ويتركون بيت المقدس في أيدي المسلمين، وهكذا انتصر صلاح الدين دون أن يخوض معركة، لأنه أسند أمره إلى الله عز وجل.