حال أهل جزيرة كريت

المثل الآخر: هي قصة -أيضاً معروفة في التاريخ- وقعت في جزيرة يقال لها: جزيرة كريت، والمسلمون يسمونها جزيرة إقريطش، وكانت هذه الجزيرة، جزيرة صغيرة في البحر المتوسط، وكان فيها مدينة يخرج منها دائماً الغزو للروم، وهذه المدينة الصغيرة كثيراً ما تخرج منها جحافل وجيوش لغزو الروم، فغضب ملك الروم أشد الغضب من هذه المدينة، وحلف أن يدخلها ويدمرها على أهلها، وغزاها بجيش كثيف، ملأ السهل والجبل وملأ البحر، وحاصر هذه المدينة حصاراً طويلاً، ولم يكن لهذه المدينة بد من الاستسلام، وكانت أشبه بإنسان صغير، أمسك عدوه بخناقه، وخنقه بثوبه، بحيث إنه ينتظر الموت في أي لحظة، وظهرت بوادر المجاعة في هذه المدينة، حيث لم يكن في ذلك العصر وسائل للاتصالات الهاتفية، أو غيرها بحيث يعلم المسلمون بالأمر، فبقيت هذه المدينة بمعزل لا يعلم المسلمون من أمرها شيئاً، وبعد ذلك تشاور أهل المدينة، واتفق أمرهم على أن يستسلموا؛ لأنه ليس أمامهم مفر من الاستسلام، فليس بيدهم قوة ولا حماية كافية، ولا استطاعوا أن يخبروا المسلمين بخبرهم فبقوا قلة قليلة، يحيط بهم جيش كثيف مدجج من الروم.

فكان هناك شيخ كبير السن، معتزل في أحد مساجد المدينة، فلما علم بالخبر دعا رءوس القوم، وقال لهم: ما الذي عزمتم عليه؟ قالوا: عزمنا على الاستسلام، قال: هل بقي لكم قوة تدافعون بها، أو حيلة تحتالون بها؟ قالوا: لا، لم يبق لنا شيء، قال: فاستمعوا إلىَّ إذاً: اخرجوا جميعاً إلى ساحة القرية، وأخرجوا رجالكم، ونساءكم، وأطفالكم، وبهائمكم، ودوابكم، ولا يبقى في القرية مريضٌ ولا صحيحٌ ولا كبيرٌ ولا شيخٌ ولا طفل إلا خرج، ثم افصلوا الأب عن ابنه، والأم عن ولدها، والقريب عن قريبه، ففعلوا ذلك كله، فبدأ الصياح والنحيب، الطفل يحن إلى أمة، والأم تبكي على طفلها، والقريب يبكي على قريبه، ثم أمرهم أن يبتهلوا إلى الله عز وجل، فابتهلوا إلى الله تعالى، وعلا نحيبهم، وصياحهم، وتضرعهم، إلى الله عز وجل.

فقال: هل بقي بقلوبكم شيء غير الله تعالى، واللجوء إليه والانكسار، قالوا: لا والله ما بقي في قلوبنا شيء، كلُُ الحيل الدنيوية قد فشلت، ولم يبق إلاَّ الاعتصام بالله تعالى.

قال: فافتحوا إذاً أبواب المدينة، واخرجوا إلى عدوكم مرة واحدة، عجوا إلى الله عجة واحدة، وقولوا: يا الله ففعلوا، وفتحوا أبواب المدينة، وخرجوا دفعةً واحدة، فلما رآهم العدو، قذف الله في قلوبهم الرعب ففزعوا وخافوا، وظنوا أن المسلمين قد أعدوا لهم خطه شديدة، فهرب العدو لا يلوي على شيء، وما التفت أحد منهم حتى وقع في البحر، ثم انصرفوا مهزومين، دون أن يمسوا المسلمين بسوء.

فأهل هذه الجزيرة لم ينتصروا بعدد ولا عدة ولا بقوه ولا بإمكانيات ولا بماديات ولا بأسلحة متطورة، ولا بتقنية، ولا بتقدم وتصنيع، ولا بكثرة جيوشهم؛ إنما انتصروا حين انقطعت قلوبهم إلى الله تعالى، لأن المسلم يعلم أن النصر من عند الله تعالى، وأن الله تعالى بيده مقاليد السماوات والأرض: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفتح:4] .

فالله تعالى لو شاء أن يأمر السماء أن تمطر لأمطرت على أعدائنا ناراً تحرقهم، ولو شاء أن يأمر الأرض لزلزلت من تحت أقدام عدونا، ولو شاء عز وجل لسلط عليهم الريح، ولو شاء لسلط عليهم البراكين، ولو شاء لسلط عليهم طوفاناً من عنده: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] .

لكن كل هذه الوسائل يدخرها الله عز وجل لعباده الصادقين، الذين علم الله من قلوبهم الانقطاع إليه، وصدق اللجوء والرغبة فيما عنده.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015