المشكلة الثانية في مجتمعات الدعوة النسائية هي: صعوبة التوفيق بين العمل والدعوة والشئون المنزلية؛ فأمام المرأةِ -مثلاً- العمل: دراسةُ أو تدريس أو أيّ عمل آخر، وأمامها الدعوة، وأمامها -أيضاً- بعض الأمور المنزلية: البيت، والزوج، والأولاد… إلى غير ذلك، وهذه بلا شك معضلة حقيقية، ولا أتجاوز الحقيقية إذا قلت: إنها أكبر مشكلةٍ تواجه الداعيات، وعلى عتبتها تتحطم الكثير من الآمال والطموحات؛ فكم من فتاةٍ تشتعل في قلبها جذوة الحماس للدعوة إلى الله تعالى، وتعيش في مخيلتها الكثير من الأحلام والآمال والطموحات، فإذا تزوجت وواجهت الحياة العملية، تبخَّرت تلك الآمال، وذابت تلك المشاعر، ولم تعد تملك منها إلا الحسرات والأنَّات والآهات والزفرات والذكريات والله المستعان! وكثيراً ما تقول الفتيات: كنت وكنت وأصبح كثير من الأخوات كنتياً! فهي تستطيع أن تقول: كنتُ وكنتُ، لكن لا تستطيع أن تقول: أنا الآن أفعل كذا إلا في القليل، ولا أزعم أيضاً أنني أملك حلاً لهذه المعضلة، ولكنني أحاول المشاركة في بعض الحلول: فأول إضاءة في هذا الطريق هي في ظل قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:2-3] ويقول الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق:5] ويقول الله تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29] .
فالتقوى هي أول حل: أن يتقي العبد ربه، وتتقي الأمة ربها جل وعلا في نفسها، ووقتها، وزوجها، وعملها، ومسئولياتها.
والتقوى ليست معنىً غامضًا كما يتصور البعض؛ نحن من الممكن أن نحدد التقوى في بعض النقاط والأمثلة التالية: من التقوى: أن تختصر الفتاة ثلاث ساعات تجلسها أمام المرآة، وهي تعبث بالأصباغ وترسم وتمسح، وتزين شعرها؛ لتصبح هذه الثلاث الساعات نصف ساعة-مثلاً- أو ثلث ساعة، دون تفريطٍ في العناية بجمالها لزوجها، الذي هو جزءٌ من شخصيتها وجزء من فطرتها.
ومن التقوى: أن تختصر الفتاة مكالمةً هاتفية تقضي فيها ساعتين مع زميلتها، في أحاديث لا جدوى من ورائها؛ لتكون هذه المكالمة ربع ساعة، أو عشر دقائق في السؤال عن الحال والحلال والعيال وغير ذلك.
ومن التقوى: أن تختصر الفتاة الوقت المخصص لصناعة الحلوى-مثلاً- من ساعةٍ ونصف إلى صناعةٍ جيدةٍ جاهزةٍ، لا يستغرق تحضيرها -أحيانًا- نصف ساعة.
ومن التقوى: أن تقتصد المؤمنة في نومها، فالنوم من صلاة الفجر -مثلاً- إلى الساعة العاشرة ضحى، وبعد الظهر، وقسطًا كافيًا من الليل هذا من عادات الجاهلية، وامرؤ القيس لما كان يمدح معشوقته، كان يقول: نئوم الضحى، فيمدحها بكثرةِ نومها، لكن في الإسلام مضى عهد النوم وانتهى، وأصبح المؤمن مطالبًا بأن يكون قسطه من النوم مجردَ استعدادٍ لاستئناف حياةٍ من البذل والجهاد.
فنومها إلى الساعة العاشرة ضحىً، ثم بعد صلاة الظهر، وقسطًا كافيًا من الليل هذا الأمر لا يسوغ، والرجل مثلها، ولذلك في قصة أم زرع وهي في صحيحي البخاري ومسلم: {اثنتي عشرة امرأة اجتمعن وتعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئًا، فكل واحدةٍ قالت: زوجي كذا… زوجي العشنق، إن أنطق أطلَّق، وإن أسكت أعلَّق} إلى آخر القصة الطويلة التي لا شأن لنا بها الآن، لكن الخامسة منهن قالت: {زوجي إن دخل فَهِد، وإن خرج أَسِد، ولا يَسْأل عما عَهدْ} فما معنى فهد؟ يقول ابن الأنباري: إن معنى قولها: (إن دخل فهد) .
هو أنه صار كالفهد، وهو حيوان كثير النوم، فهي تقول: إنه إذا دخل التف بفراشه وغفل عنها، ونام نومًا طويلاً، أما إذا خرج فهو كالأسد الهصور على الناس، (ولا يسأل عما عهد) أي: أنه رجلٌ فيه كرمٌ وفيه إعراض، فهو لا يدقق في كل شيء، ولا يسأل عن كل شيء، وقد كان العرب يمدحون الإنسان بمثل هذا الشيء.
ومازال العرب-أيضًا- يمدحون الإنسان بقلة نومه واقتصاده في ذلك، وأراكم تذكرون قول الهُذلي الذي يقول مادحاً رجلاً: فأتت به حُوشَ الفؤاد مُبَطَّناً سُهُدًا إذا ما نام ليلُ الهَوْجَلِ.
فكون الإنسان قليل النوم ذلك مما يمدح به الرجل والمرأة، والاقتصاد في ذلك ممكنٌ، فالعلماء في السابق كانوا يقولون: إن القدر المعتدل من النوم ما بين ست إلى ثمان ساعات يومياً، وهذا الكلام ذكر جماعةٌ من السابقين إجماع الأطباء عليه.
أما الآن فقد ظهر أطباء معاصرون يقولون: لا.
بل الأمر الغالب أن النوم الطبيعي من ست إلى ثمان ساعات؛ لكن قد يكتفي الجسم بدون ذلك، كثلاث أو أربع ساعات أحيانًا، وقد يحتاج إلى أكثر من ثمان ساعاتٍ أحيانًا، وهذا وذاك قليل، لكنه موجود.
الإضاءة الثانية: هي قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل:90] وقول النبي صلى الله عليه وسلم -فيما رواه الشيخان- لـ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: {إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً} وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً} .
والزَوْر يحتمل أن يكون المقصود به: الجوف، أي: أن نفسك لها عليك حق، فينبغي أن تأكل بقدر ما تحتاج مثلاً، وقيل: إن المقصود بالزور: الزوَّار، فلهم حقٌ عليك أيضًا، وحقُّ الأضياف ألا تهملهم وتهجرهم وتخسرهم، وتعرض عنهم: {فآت كل ذى حقٍ حقه} ولذلك سوء التوزيع يكون سببًا في ضياع الثروة.
وإذا كانت أغلى ثروة نملكها هي الوقت؛ فإن سوء توزيع الوقت من أسباب الضياع، ولو أن الرجل والمرأة أفلحا في ضبطه وتوزيعه بطريقة معتدلة؛ لكسبا شيئاً كثيراً.
فبعض الزوجات الداعيات-مثلاً- تشتكي أن زوجها الملتزم لا يعطيها من الوقت ما يكفيها، وهذه جاءت لي فيها شكاوى كثيرة، وأقول- ولعلي لا أكون من هؤلاء-: ليس أولئك بخياركم! فمن يقصرون في حقوق بيوتهم ليسوا من الخيار.
فكثير من النساء تشتكي أن زوجها لا يعطيها من الوقت ما يكفيها، وقد لا يأوي إلى البيت إلا متأخراً، وربما يأوي وهو متعب قلق أو متضايق، فهو لا يريد أن ينظر إلى زوجته، ولا أن يجلس معها، وإنما يريد أن يأوي إلى الفراش، أو ينام أو يخلو بهمومه، أفليس من المناسب إذن- إذا كان الأمر كذلك- أن تكون المرأة منشغلةً بعض الوقت بشئون بيتها، أو شئون دعوتها، أو شئون أولادها في ظل غياب زوجها؟! خاصةً ونحن نعلم أن المرأة إذا كانت جالسةً في البيت تنتظر الزوج، فهي تعدُّ الساعات والدقائق عدًّا، فإذا جاء زوجها كانت قد استطالت غيبته، واستبطأت مجيئه، لكن إذا كانت المرأة هي الأخرى مشغولة في أمورٍ مفيدةٍ نافعة في دينها أو دنياها؛ فإن الوقت يمر عليها بغير ذلك.
ومن العدل ترتيب الأولويات والمهمات، فالفرض-مثلاً- يقدم على النفل، وربنا تعالى يقول في الحديث القدسي الذي رواه البخاري: وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه…} إذًا أولاً الفرائض ثم النوافل؛ لأنّ الله تعالى لا يقبل نافلةً حتى تؤدَّى الفريضة، كما قال أبو بكر رضي الله عنه في وصيته.
فالفرض يقدم على النفل، والضرورات تقدم على الحاجات، والحاجات تقدم على الأمور التكميلية التحسينية، هذا إذا كان هناك تعارض.
فليس من العدل أن تهمل المرأة زوجها وبيتها وأولادها؛ بحجة أنها -مثلاً- مشغولة بالدعوة، كما أنه ليس من العدل أن يهمل الرجل بيته وزوجه وأولاده؛ بحجة أنه مشغول بالدعوة، وليس من العدل أن تغفل المرأة الداعية عن عملها الوظيفي الذي تتقاضى عليه مرتبًا من الأمة، أو تغفل عن عملها الدعوي الذي هي فيه على ثغرة من ثغور الإسلام، ويُخشى أن يؤتى الإسلام من قبلها، فبإمكانها أن تسند بعض المهمات إلى آخرين، وهذا من الحلول، فيتحملون معها المسئولية، وهي تقوم بدور التوجيه والإشراف، فإذا كثرت عليها الأعمال استطاعت توزيع المهمات مثلاً، فيمكن أن يساعدها أحدٌ في القيام على شئون الأطفال، خاصةٍ ممن يوثق بعلمها ودينها وخلقها، ويمكن أن يساعدها أحدٌ في ترتيب بيتها، ويمكن أن يساعدها أحدٌ في مهماتها الدعوية - كما أسلفت قبل قليل- ويساعدها أخرياتٌ يتدربن على هذه الأعمال شيئاً فشيئاً، ويقمن بهذه المهمة، ويساعدن عليها.
أما الإضاءة الثالثة فهي قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين} [الأنعام:161-162] .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن جابر، ومسلم عن حذيفة رضي الله عنهما: {كلُّ معروف صدقة} و (كل) : من ألفاظ العموم: {كل معروف صقة} .
ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والترمذي، والحاكم عن جابر رضي الله عنه: {وإن من المعروف أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط، وأن تفرغ من دلوك في إناء جارك} ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطيالسي، وأحمد، والنسائي عن عمرو بن أمية الضمري {كل ما صنعت لأهلك فهو صدقة عليهم} والكلام للرجل والمرأة-أيضًا- على حدٍ سواء؛ بل في الحديث المتفق عليه الذي رواه البخاري ومسلمعن أحمد عن أبي