خذ نموذجاً من الجن مما ذكره الله تعالى بقوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29] صرفهم الله تعالى إلى الرسول، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلِّي الفجر في بطن نخلة، بين مكة والطائف، فسمعوا شيئاً من القرآن قدر60 أو 80 آية أو 100 آية، كان يقرأ في صلاة الفجر كما في الصحيح ما بين الستين إلى المائة، فلنفرض أنهم سمعوا مائة آية، وربما أنهم جاءوا الصلاة في منتصفها -مثلاً- المهم أنهم سمعوا القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصتوا.
كل واحد يشير للآخر ويقول: اسكت، لا يريدون أن يفوتهم شيء، آذانهم مفتوحة، ولا يوجد حواجز بينهم وبين القرآن {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] لم يقل: مسلمين، ولا مؤمنين! وإنما قال: (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) !.
إذاً تجاوزوا مرحلة الإسلام، وتجاوزوا مرحلة الإيمان أيضاً، وتعدوه إلى مرحلة الإنذار، إنهم منذرون، أي: صاروا دعاة بمجرد حضورهم صلاة واحدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنذرون من طراز فريد، يقف الواحد منهم خطيباً أمام قومه، وهو يقول: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:30-32] .
فهؤلاء القوم هزوا قلوب الجن بالإنذار والتحذير، وقالوا لهم: بعث نبي جديد من بعد موسى يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وفي الآية الأخرى قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [الجن:1-2] كلام طويل يعبر عن لهفتهم وتأثرهم وانفعالهم بهذا الذكر وهذا الوحي، قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] .