القاعدة الثانية: وهي أنَّ كل أمر فيه حرج حقيقي فليس من الدين بوجه من الوجوه، ولو كان مأموراً به -أصلاً- ثم ترتب عليه حرج، فإن الله تعالى يرفع الحرج عن هذه الأمة، ولهذا قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] ليس عليهم حرج -مثلاً- في الجهاد والقتال؛ لأنهم لا يستطيعون ذلك، وفي هذا العمل من المشقة عليهم ما فيه، إذ أنهم عاجزون عن مقاومة عدوهم ومواجهته، فرفع الله تعالى عنهم الحرج في هذا، وفي غيره فيما هو مجال للرخصة والتيسير.
وهكذا جاءت سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم مرادفةً للقرآن، ومؤكدة على هذا المعنى، أن الدين ليس فيه حرج بوجه من الوجوه، فمثلاً في حديث أبي هريرة، الذي رواه البخاري في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا} فوصف الدين بأنه يسر كله، فقوله: {ولن يشاد الدين أحد} أي يأخذه بالشدة والقوة {إلا غلبه} أي: غلبه الدين، ولذلك تجد أن الذين يفرطون في أمور الدين يؤول بهم الأمر إما إلى مشقة شديدة على أنفسهم، وإما إلى إفراط وتضييع والعياذ بالله ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فسددوا} أي: احرصوا على أن يكون رميكم صواباً، وأن يكون اتجاهكم سليماً ووسطاً قصداً، بين الإفراط والتفريط، بين الغلو والجفاء.
وإذا أعوزكم التسديد، وحصل عند الإنسان شيء من التقصير فليقارب، أي يحرص على أن يكون قريباً من الصواب وأبشروا، واستعينوا على طريقكم إلى الله -تعالى وطريقكم إلى الجنة {بالغدوة، والروحة} بالسفر أول النهار، حيث النشاط والقوة والروحة وهي: السير بعد الزوال حينما تهدأ الشمس وتبرد، {وبشيء من الدلجة} يعني: مسير الليل أيضاً.
{والقصد القصد تبلغوا} يعني اعتدلوا.
فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم، شبه المسلم والعالم وطالب العلم والداعية بإنسان يريد أن يسافر، فلو فرض أن هذا المسافر قال: الطريق طويل، وأمامي مواعيد وارتباطات، ولابد من السرعة، فجار على راحلته -سواءً كانت بعيراً أو غيره، كما كانت وسيلة النقل في الماضي، أو حتى لو كانت سيارة، كما هي وسيلة النقل اليوم- فتجد أنه يجور عليها ولا يتوقف، فيركب هذه السيارة ولا يتوقف لملاحظة عيارات السيارة مثلاً، ولا لغير ذلك، ولا يقف ليبرد الجو، وإنما وضع رجله، وسار مسرعاً يقطع الفيافي والقفار، وينهب المسافات نهباً، وبعد ذلك ربما تعرض للسيارة عطل، وترتب عليه تأخير طويل، وربما أصبحت السيارة غير قابلة للمشي، فتأخر كثيراً أو ترك المسير، فترتب على ذلك أنه ضيع هذه الدابة أو السيارة وأتلفها، وكذلك لم يحصل على ما يريد من السفر.
ولهذا جاء في الحديث الآخر: {إن المُنبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى} فلا هو قطع المسافة ولا هو احتفظ بالظهر أي: (الدابة) التي كان يركبها، ولهذا قال: {القصد القصد تبلغوا} لكن الذي يسير بهدوء واعتدال، ويعطي السيارة حقها، فإنه يصل -بإذن الله تعالى- في وقت مقارب، وهو -أصلاً- إذا كان عَّود نفسه على الاعتدال، فإنه يحتاط لسيره احتياطاً مناسباً، فتجد أنه لا يصيبه من لأواء السفر ووعثائه إلا الشيء اليسير.