النوع الثاني: هو أن يريد الإنسان بعمله أمراً دنيوياً مباحاً، يعني أراد وجه الله، لكن مع ذلك أراد أمراً دنيوياً مباحاً، وذلك مثل إنسان حج إلى بيت الله الحرام؛ لأنه تاجر يبيع في مكة، البضائع على الحجاج، لكنه لا يخادع الحجاج، ولا يضحك عليهم، ولا يبخس حقوقهم، ولا يستغل ظروفهم الصعبة، بل يبيع بالطريقة الشرعية، فحج، وفي الوقت نفسه أراد الحج وأراد البيع.
فهذا أجمع أهل العلم على أن حجه صحيح، وأنه لا شيء عليه في هذا، وقال كثير من المفسرين -لو صح عن ابن عباس - أنه في هذا نزل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة:198] فقالوا: هذه نزلت فيمن أراد الحج وأراد التجارة.
ومثله إنسان ذهب إلى الجهاد في أي بلد إسلامي، مثلاً ذهب إلى الجهاد في أفغانستان.
يا فلان: لماذا ذهبت لتجاهد في أفغانستان؟ قال: والله أنا ذهبت لإعلاء كلمة الله ومقاتلة الكفار، لكن لا شك -أيضاً- كان عندي قصد آخر.
ما هذا القصد الآخر؟ قال: والله كان عندي أن أحصل على شيء من الغنائم التي نصيبها من الكفار، وعندي أمل كبير أن الله سبحانه وتعالى سيرزقنا منهم كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم، أو أريد أن أحصل على أمة من نساء بني الأصفر، من نساء الروس، تكون أمة عندي فأتزوجها، هذا من مقاصدي أيضاً.
هذا أيضاً لا بأس به ولا يضر، ولا نشك مطلقاً بأن الذي حج للحج فقط أو غزا لإعلاء كلمة الله فقط أنه أعظم أجراً بكثير من الذي حج ليحج وليتاجر أو غزا ليرفع كلمة الله وليحصل على مغنم، لكن أيضاً التجارة وطلب الحصول على مغنم لا يؤثر في أصل إرادة وجه الله تعالى.
هناك أمثلة عديدة لهذا الموضوع من واقع حياة الناس، ربما يتساءل عنها الكثيرون، فأحببت أن أشير إليها، وهي تنقص من أجر الإنسان وقيمة عمله، لكنها لا تحبط العمل، ولا تعد محرمة.
مثلاً: أحد الشباب تجده يصوم الاثنين والخميس، أو يصوم يوماً ويفطر يوماً.
لماذا؟ قال: لعدة أسباب، أنا أصوم -من الأسباب- أصوم بالدرجة الأولى لوجه الله؛ لما ورد من النصوص في فضل صيام هذه الأيام، وأتحرى صيامها.
لكن أيضاً عندي أمر آخر: وهو أنني أصوم من أجل الصحة؛ لأن الصوم فيه صحة ثابتة، ومعلومة لدى الأطباء، فحاولت أن أعمل هذا العمل لوجه الله، ورأيت أنه يفيدني -أيضاً- في مجال الصحة، إضافة إلى ما ورد في الحديث أن الشاب إذا لم يستطع الباءة فعليه بالصوم، حديث ابن مسعود المتفق عليه {من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} .
فنقول لا بأس بهذا العمل، ولكن كان الأفضل أن تنوي بصيامك وجه الله فقط، دون أن تدخل في ذلك مقاصد دنيوية أخرى، وإن كانت هذه المقاصد مباحة.
مثال آخر: إنسان شديد البر بوالديه، يا فلان لماذا هذا البر بوالديك -ما شاء الله، تبارك الله-؟ قال: والله نعم، الحقيقة أنا أبر بوالدي لأسباب، أهمها وأولها: ما أعلم من نصوص القرآن والسنة في حق الوالدين، التي تجعل كل من قرأها لا يملك إلا تقدير الوالدين والقيام ببعض حقوقهما التي يستطيع، ومما دفعني إلى الالتزام بذلك -أيضاً- أنني أعلم من خلال التجربة، والقراءة في بعض الكتب أن الإنسان الذي يبر والديه يبره أبناؤه، فأنا أريد أن يبر بي أبنائي، لذلك أبر بوالدي.
فليس هناك مانع من هذا العمل، ولكن الأكمل أن ينوي في بره بوالديه وجه الله تعالى فقط دون أن يدخل في ذلك الرغبة في أن يبر به أبناؤه.
كذلك إنسان كثير العبادة والذكر والدعاء والصلاة، سُئل لماذا تفعل هذا؟ قال: والله أنا أفعل لأن الله تعالى أمر به، فهي عبادة أمر الله تعالى بها، وأيضاً أجد أن هذه الأعمال فيها سعادة، وراحة، وطمأنينة بال، وهدوء قلب، وهذا أمر يفقده كثير من الناس من غير المتعبدين، فأنا -أيضاً- أطلب بهذه الأعمال مع رضوان الله وطلب ثوابه، والخوف من عقابه، أيضاً أطلب السعادة القلبية، والراحة النفسية.
هذا مطلب دنيوي مباح، لكن لو قصد بعبادته وجه الله فحسب؛ كان هذا أكمل وأتم وأعظم أجراً لعبادته.
إنسان آخر -أيضاً- يعبد الله تعالى ويطيعه، يقصد وجه الله تعالى، ويريد مع ذلك أن يرزقه الله الذرية والمال، وينعم عليه، أخذاً من قوله تعالى في سورة نوح على لسان نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] هذا العمل لا بأس به، لكن الأكمل أن يقصد بعبادته وعمله وجه الله تعالى وحده.
وهناك مثال يتكرر كثيراً في أوساط الشباب: شاب يدرس، عنده تخوف شديد أدراسته لوجه الله أم لغير الله؟ يقول: أخشى أن أكون مرائياً أو يكون عملي لغير الله تعالى.
فنقول: ينظر الإنسان هل قصده الرياء بالدراسة؟ فهذا لا شك أن الرياء يحبط العمل -كما سبق- لكن إن كان قصده بالدراسة عملاً دنيوياً أو أمراً دنيوياً وهذا الأمر الدنيوي لا ينافي أن يكون قصده وجه الله تعالى، فهذا في نظري -وهو نظر قاصر لا شك- أنه لا يحبط العمل أو يؤثم صاحبه، لكن الأكمل ألا يكون.
مثال ذلك: طالب تخرج من الثانوية العامة، قال: أنا الآن على مفرق الطرق، لا أدري أأذهب إلى كلية الطب والهندسة، أم إلى كلية الشريعة، أنا في الواقع -ولله الحمد- عندي إمكانيات كبيرة، عندي قدرة على الحفظ، وعندي قدرة على الاستنباط -ولله الحمد- فهذا كله من فضل الله -هذا كلام الطالب- وأرغب في الواقع أن أدرس علوم الشريعة لأنفع المسلمين وأفيدهم، وأنفع نفسي أيضاً، لكني أخاف من شيء وهو النية! فأقول أذهب لدراسة الطب؛ لأني -أيضاً- أريد وظيفة مثل غيري من الناس، أريد الشهادة التي أتوظف بها، فأخشى أن أكون بعملي بالدراسة في كلية الشريعة -مثلاً- درست من أجل الشهادة، أو من أجل الوظيفة.
ففي نظري نقول لهذا الإنسان: كلا، أنت الآن ستدرس على كل حال، ولو ذهبت لتدرس في كلية الطب -مثلاً- كانت الوظيفة التي ستحصل عليها أعظم -يعني من حيث الراتب- من الوظيفة التي ستحصل عليها حين تتخرج من الشريعة، فأنت الآن حين تذهب إلى الشريعة هذا الاختيار المحدد للشريعة لم يكن لغرض دنيوي، بل كان لغرض ديني، وهو أن تريد أن تنفع الناس، وتنفع نفسك بتعلم علوم الدين والتفقه فيها، وإنما الشهادة أمر مشترك في جميع الكليات التي كنت ستدرس فيها، فاختيارك الشريعة -مثلاً- على غيرها أمر لا حرج فيه، وهذا أيضاً لا يعني أن الإنسان يسلم بهذا الأمر، بل ينبغي أن يعمل على تصحيح نيته بقدر ما يستطيع، فكلما صفت نية الإنسان كان هذا أكثر في تحصيله، وأدعى إلى توفيق الله تعالى له.
كما أن هذا لا يعني التقليل من الكليات الأخرى التي يدرس فيها الطلاب، بل المسلمين بحاجة إلى الطبيب المسلم، والمهندس المسلم، والعالم الاجتماعي المسلم، وعالم النفس المسلم، وجميع التخصصات المباحة التي يحتاج المسلمون فيها إلى متخصصين، والفقيه المسلم يحيل إلى الطبيب أحياناً، وإلى المهندس أحياناً أخرى، فالمجتمع يحتاج إلى جميع هؤلاء، وإنما هو مجرد مثال.