ترك العمل خوف الرياء

الخطأ السادس هو مرتبط بما قبله في موضوع الرياء، لكني أعُدُّه مستقلاً لأهميته: وهو أن كثيراً من الناس خوفاً من الرياء يتركون الأعمال، فيترك مثلاً إمامة الجماعة، وخطبة الجمعة، والتدريس في المسجد، والوعظ والإرشاد، والتبكير إلى المسجد، وقراءة القرآن، وهذا كله حدث، يقول: أنا أخاف من الرياء؛ لأن الرياء بدأ يداخل النفس.

والواقع أن إمكانية تخلص الإنسان من جميع الواردات التي قد ترد على قلبه أمر متعذر، فلا يزال الإنسان في جهاد حتى يموت، والشيطان يحاول أن يشكك الإنسان في نيته، ويوقعه في نيات ومقاصد لغير الله تعالى.

إذاً الذي يظن أنه سوف يتخلص من الرياء واهم، لكن ترك العمل خوف الرياء لا يجوز.

خاصة الأعمال الواجبة، لذلك يقول القاضي عياض -رحمه الله-: ترك العمل من أجل الناس رياء، كما أن العمل من أجل الناس شرك.

ما معنى هذه الكلمة؟ هذه الكلمة معناها -كما يقول الإمام النووي -: إن من أراد أن يعمل عملاً صالحاً ثم تركه خوف الرياء من الناس، فإنه يكون مرائياً بهذا الترك؛ لأن الترك من أجل الناس، فكما أن العمل من أجل الناس هو رياء أو شرك، كذلك الترك من أجل الناس هو الآخر رياء أيضاً.

إذاً من أراد أن يعمل عبادة ثم تركها من أجل الناس فقد وقع في الرياء -كما يقول القاضي عياض والنووي وغيرهما- كما أن من عمل العمل من أجل الناس فقد أشرك أو راءى، وأما -والكلام لا يزال للنووي- من ترك العمل من أجل الناس علناً ليعمله في الخفاء فهذا لا بأس به.

وفيما يتعلق بكلام النووي أرى إن كان المقصود ترك عمل مخصص، يعني إنسان مثلاً أراد أن يصلي الراتبة في المسجد، ثم نظر والناس ينظرون إليه، وخشي أن يدخل في قلبه الرياء فقال: أصليها في البيت.

هذا صحيح، والأفضل أن يصليها في البيت أصلاً، لكن لو كانت عبادة مطلقة أو نافلة مطلقة ليست مخصصة نقول: صل هنا، وصل في البيت.

ولا تباعد بينهما، ولا تناقض بينهما.

وأنا في الواقع أفضل ألا يترك الإنسان أي عمل من الأعمال من أجل الناس؛ لأن هذا قد يدخل الإنسان في متاهة ليس لها نهاية، والأفضل أن يعود الإنسان نفسه عدم النظر إلى الناس مطلقاً، وهذا ممكن بالتعود، وهو أمر مجرب، فعود نفسك أن تتجاهل الناس سواء أمدحوا أم ذموا أم نظروا أم أعرضوا، فلا تلتفت إلى هذه الأمور، وإذا ورد إلى قلبك شيء من ذلك ادفعه بالوسائل الممكنة، أما أن تترك شيئاً من أجل الناس أو تعمل شيئاً من أجل الناس فهذان كلاهما ممنوع، لذلك يقول ابن حزم -رحمه الله- في كتابه القيم الأخلاق والسير في مداواة النفوس يقول: لإبليس في ذم الرياء حُبالة، فكم من إنسان ممتنع من فعل خير خشية أن يظن به الرياء.

ويقول ابن حزم -رحمه الله-: فإذا طرقك شيء من ذلك فامض على فعلك فهو شديد على الشيطان.

فالوصية التي ينصح ابن حزم بها الإنسان: أنه إذا خطر في بالك أن تترك العمل من أجل الناس فامض في هذا العمل، فإن مضيك في هذا العمل شديد على الشيطان، وإلا فلو تركت العمل خوف الرياء لعرض لك الشيطان عند كل عمل صالح تعمله؛ لأنه قد علم منك هذا الضعف، وقد حدثني جماعة من الشباب أن هناك من ترك التبكير إلى المسجد، يقول: أخاف الرياء.

وترك قراءة القرآن يقول: أخاف الرياء.

وترك الإمامة؛ يقول: أخاف الرياء.

وترك تدريس وتعليم القرآن الكريم خوف الرياء، إلى غير ذلك!! ثم إن كثيراً من الأعمال إذا عملها الإنسان مرة أو مرتين أو ثلاث وأربع واستمر عليها قلَّ الخوف من الرياء.

فمثلاً: أول مرة يقوم الإنسان ليعظ في المسجد فتكون المخاوف من الرياء كبيرة؛ لأنه يحس أنه يقوم بعمل جليل، فيأتيه الشيطان فيقول رياء! رياء! رياء! لكنه بعد أن يتعود على إلقاء الكلمات في المساجد يضعف عنده الخوف من الرياء، وهذا أمر مجرب، خاصةً إذا كان يجاهد نفسه على الإخلاص؛ فيعينه الله تعالى على ذلك.

ومما يدخل في هذا الباب -أيضاً- ما ذكره ابن قدامة في مختصر منهاج القاصدين: أن بعض الناس يكون في بيته لا يعمل الأعمال الصالحة، فإذا صحب بعض المتعبدين انبعثت نفسه إلى العبادة، فيخشى أن يكون هذا من الرياء؛ فيترك العمل! أنا -مثلاً- لا أقوم الليل في بيتي، لكن سافرت مع بعض الصالحين في حج أو عمرة فرأيتهم يقومون الليل؛ فوجدت في نفسي دافعاً لقيام الليل، وبدأت أقوم، جاءني الشيطان؛ وقال: أنت تقوم رياء! بدليل أنك لما كنت في المنزل ما كنت تقوم الليل، إنما تقوم من أجل فلان وفلان.

هل هذا الكلام صحيح؟! لا، ليس بصحيح على إطلاقه، بل نقول: إن الذي جعلك لا تقوم الليل -أصلاً-؛ أنك في المنزل تنام على فراش وثير، وإلى جوار زوجة حسناء، وربما تستعمل من الأشياء الكثيرة التي تجعل نومك ثقيلاً، ويصعب عليك الاستيقاظ، ولا تجد من يعينك، لكن لما ذهبت في السفر؛ فليس هناك الفراش الوثير، ولا الزوجة الحسناء، وربما يجد الإنسان شيئاً من البرد أثناء نومه -مثلاً- إن كان في وقت الشتاء، إضافة إلى أنه وجد عوامل تساعده على الاستيقاظ مثل هؤلاء الصالحين؛ فانبعثت نفسه إلى العبادة لوجه الله.

فعليه أن يقوم ويتعبد ولا يبالي، لكن لو كانت -فعلاً- عبادته من أجل الناس بحيث إذا كانوا لا يعلمون بصلاته ما صلى.

يعني: لو كان -على سبيل المثال- مصاحباً لإنسان أعمى لا يدري هل هذا يقوم أو لا يقوم، فلم تنبعث في نفسه دوافع العبادة، لماذا؟! لأنه يقول: لا يراني؛ فلا داعي أن أقوم.

هذا لا شك أنه رياء محض ومن النفاق.

هذا ما أحببت أن أحدثكم به، وأرجو الله تعالى أن ينفع بها من قرأها، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015