الأمر الذي لا يجوز في النية: هو أن يعمل الإنسان العبادة بقصد كسب ثناء الناس، كأن يصلي -مثلاً- من أجل أن يمدحوه، أو يثنوا عليه، فهذا لا شك لا يجوز، لذلك يقول الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى} وقد ورد عند الطبراني بسند صحيح -كما يقول ابن حجر -: أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة من أجل أن يتزوج امرأة كان اسمها أم قيس، فهاجر هذا الرجل ليس من أجل الله، إنما هاجر من أجل أم قيس، من أجل سواد عيون أم قيس، فتزوج بها؛ فكانوا يسمونه مهاجر أم قيس.
وروى الزبير بن بكار أن هذا القصة هي سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى} ورجحه ابن تيمية -رحمه الله- ولذلك جاء في الحديث: {فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة (يعني مثل أم قيس) ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه} فهذا المهاجر ليس له من هجرته إلا أم قيس التي ظفر بها.
وأذكر قصة ذكرها ابن الجوزي في تلبيس إبليس وهي قصة عجيبة فعلاً، يقول -عن وهب بن منبه -: أن رجلاً من بني إسرائيل كان يعبد الله تعالى عبادة صحيحة، وفي يوم من الأيام كان هذا العابد جالساً في مجموعة من مريديه وأصحابه وخلانه، فالتفت إليهم وقال: لقد هربنا إلى عبادة الله تعالى خوفاً من الطغيان، والله إني لأخشى أن نكون وقعنا في هذه العبادة في طغيان، حيث أصبحنا نفرح بأن يوقرنا الناس، ويقدرونا، ويقاربونا في السعر والبيع والشراء من أجل عبادتنا.
يعني يقول: أصبح الواحد منا -نحن العباد- يفرح بأن يعظمه الناس، ويقبلوا رأسه، ويكرموه لأنه عابد، ويفرح إذا جاء إلى دكان خفضوا في قيمة البضاعة من أجله.
فقال: أخشى أن يكون هذا طغيان في عبادتنا لله عز وجل.
فهو يلوم نفسه ويوبخها، فتعجب الناس من هذه الكلمة.
ومن فقه هذا العابد وكثرة مراقبته لنفسه، وصاروا يتناقلون هذه الكلمة منه، حتى وصلت إلى الحاكم أو الأمير أو السلطان، والأمراء عادة يحبون أن يشاهدوا أمثال هؤلاء الصالحين ولو كان فيهم فساد وانحلال، لكن يحبون أن يروا أهل الصلاح ويقتربوا منهم، خاصة في الأزمنة الماضية.
فركب الأمير لينظر إلى هذا العالم، ويقف عنده، ويستفيد منه.
فعلم العابد بأن الأمير قد ركب إليه؛ فخاف أشد الخوف.
قال: الآن الأمير ركب من أجل أن يأتي إلي!! هذا ربما يؤدي بي إلى أن أرتكب والعياذ بالله أخطاء أكبر من ذلك في موضوع النية، وقد تنتقل نيتي في العبادة إلى نية الحصول على الدنيا، وكسب ثناء الناس، ومجيء الأمراء إلى بيتي، وما أشبه ذلك.
فخاف خوفاً شديداً؛ فأراد أن يحتال لرد الأمير، وكان هذا الرجل كثير الصيام جداً، فلما علم بقرب الأمير قدم مائدة من الطعام الموجود عنده -خبز وما أشبه ذلك- وبدأ يأكل بنهم، فلما جاء الأمير ووقف على بابه قال للناس: أين الرجل الذي ذكر لي عنه من العبادة ما ذكر؟ قالوا: هو هذا.
والرجل يأكل بنهم، فسلم عليه الأمير، فرد على الأمير رداً ضعيفاً، واستمر في أكله.
فقال: هذا الذي يمدح؟ قالوا: نعم.
قال: هذا لا خير فيه.
وانصرف الأمير وتركه.
فلما انصرف رفع الرجل يديه إلى السماء وقال: الحمد لله الذي نجاني من هذه الفتنة.
انظر كيف تغلب الرجل على خوف حبوط عمله بإرادة الدنيا، وإرادة ثناء الناس ومدح العامة، وتقرب السلاطين منه، وما أشبه ذلك.
إذاً فالعبادة لا يجوز أن يكون المقصود بها الدنيا، ولا يجوز أن يكون المقصود بها ثناء الناس.