هناك خطأ آخر، وهو كثير اليوم، خاصة في أوساط الذين يرتكبون بعض القاذورات والمحرمات والمنهيات، فإذا سمعوا من ينهاهم أو يأمرهم أويذكرهم؛ أشار أحدهم إلى صدره، وقال: التقوى هاهنا، ويضرب صدراً منتفخاً، ويقول لك: التقوى هاهنا، ثم يقول: ربما تجد إنساناً ملتحياً مقصراً لثوبه، ومع ذلك يرتكب المعاصي، ويأكل أموال اليتامى ظلماً، وقلبه ممتلئ بالحقد والحسد، وأنا -ولله الحمد- قلبي نظيف وطاهر، وليس في قلبي غل على أحد، ولا آكل مالاً إلا من حلال، فالتقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، أو أكثر من ثلاث مرات.
هكذا يقول بعض الناس! فنريد أن نبحث في نصوص القرآن والسنة هل ما يقول هؤلاء يمكن أن يكون صحيحاً أو لا يمكن أن يكون صحيحاً؟ وباستقراء نصوص الكتاب والسنة يتبين أن هناك تلازماً بين الظاهر والباطن، فإذا صلح الظاهر فهو دليل على صلاح الباطن، وإذا صلح الباطن فلابد أن يصلح الظاهر.
لذلك نفى الله تعالى الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه الظاهرة فقال الله عز وجل عن الذين يدّعون الإيمان ثم يوالون الكفار: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:81] فنفى عنهم الإيمان لأنهم يوالون الكفار بالابتسامة، وبالمحبة، وبالتواد، وبالتلطف، وبكشف أسرار المؤمنين، وبإعانتهم على المسلمين، إلى غير ذلك من صور الموالاة.
فنفى عنهم الإيمان لانتفاء لوازمه الظاهرة، وكذلك في قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] فنفى عنهم الإيمان؛ لموادتهم أعداء الله عز وجل، والأمور كلها تدور على القلب، ولا بأس أن نستشهد بالحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} .
إذاً فالحديث نص على أن الجسد يدور على هذه المضغة، فإذا صلحت هذه المضغة صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد، فإذا رأيت إنساناً ظاهره الصلاح، وسيماه الخير، والاستقامة، ويتردد على الجماعة في المساجد، وكلامه طيب، ولسانه رطب بذكر الله، وقصير الثوب غير مسبل، مرسل لشعره اتباعاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومحسن إلى الناس، ومتجنب لإساءتهم؛ اكتشفت من خلال هذه الأعمال الظاهرة أن هذا الإنسان صاحب قلب سليم.
وعلى العكس من ذلك حين ترى إنساناً مظهره مظهر سوء، يجر ثوبه خيلاء، ويشتم هذا، ويسب هذا، ويلطم هذا، ويعتدي على الناس، ويؤذيهم في أموالهم وأعراضهم وأمورهم، ويسيء إلى جيرانه، ويتكلم على والديه، ويأكل الربا، ويترك الجمعة والجماعة، ويحلق شعر لحيته، ويطيل شاربه، ويدخن، عرفت من خلال هذه الظواهر بأن هذا الإنسان صاحب قلب مريض، وهذا المرض خرج من القلب وفاض إلى الجوارح.
إذاً في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد، فالذي يقول: التقوى هاهنا.
نقول له: نعم، التقوى في الأصل هاهنا، لكنها مثل الشمس إذا خرجت لابد أن تنتشر أشعتها في كل مكان، فالذي عنده تقوى في قلبه لابد أن تنتشر آثار التقوى في جوارحه؛ فيتكلم بالكلام الطيب، ولا يأخذ ويعطي إلا الطيب، ولا يمشي إلا إلى طيب، ولا يتصرف إلا بطيب.
ومن فقد التقوى في قلبه ظهرت آثار فقدان التقوى في جوارحه.
وهذه هي النقطة الثانية أو السؤال الثاني الذي يمثل الخطأ الآخر أن بعض الناس يريدون أن يفصلوا بين النية وبين العمل، ونقول لا يمكن الفصل بين النية وبين العمل، لذلك كان الحديث الذي يقول: {نية المؤمن خير من عمله} ضعيفاً، لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النية والعمل متلازمان.
وإن كانت نية الإنسان العمل الصالح يثاب عليها ولو لم يعمل هذا العمل؛ لأن النية في ذاتها عمل، فالنية عمل، وهي شرط لتصحيح العمل.