إن آخر هذه الأمة لن يصلح إلا بما صلح به أولها، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ربَّى هذه الأمة على هذه المعاني، فربَّاها على المسئولية الشخصية في طلب العلم الشرعي والتعب وراء تحصيله، وربَّى هذه الأمة على التزكية بهذا العلم للنفس وللغير، وربَّى هذه الأمة على مسئولية المشاركة، وأن تكون هذه الأمة جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: {مَثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
فلابد إذاً من دعوة لهذه الأمة، دعوة إلى الدين كله لا إلى بعضه؛ فلا ندعو إلى بعض الدين، ونغفل عن بعضه كما قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] إننا لا نقبل تجزيء الإسلام أو علمنته، فالدين جاء ليُعلِم الإنسان كيف يتوضأ؟ وكيف يصلي؟ وكيف يبيع ويشتري؟ وكيف يحكم؟ جاء هذا الدين ليهيمن على حياة الإنسان كلها دقيقها وجليلها، ولا يجوز التفريط بشيء من الدين، أو اعتقاد أن جزءاً من الحياة غير داخل في مسألة الهداية الربانية، ولابد أن تكون الدعوة إلى الدين لا إلى الهوى، فالدين واحد، أما الأهواء فهي شتى، قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18] وقال: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:48] فيجب أن ندعوا إلى دين الله كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، لا ندعوا إلى أمزجتنا، ولا إلى رغباتنا، ولا إلى أهوائنا، ولا إلى آرائنا الشخصية، وإنما ندعو إلى دين الله، أما آراؤنا فإننا قد نعرضها، ولكننا لا نلزم بها أحداً؛ لأنها تحتمل أن تكون خطأ وأن تكون صواباً، والرايات المرفوعة اليوم كثيرة، والكثير منها ينادي إلى القرآن والسنة، ولا شك أن الدعوة إلى الكتاب والسنة دعوة خير ودعوة تامة كما في الدعاء: (اللهم! رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة) .
والخلاف اليوم بين المسلمين كثير، وربما الكثير منه خلاف شخصي، ناتج عن اختلاف الطبائع وتفاوت المَلَكات، ويمكن تجاوز هذا الاختلاف بأن نقوم بعمل واحد لخدمة هذا الدين، قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] .
ولابد أن تكون دعوتنا إلى الدين فوق مستوى أن ندعو إلى لافتةٍ أو راية خاصة، أو حزب خاص، أو شخص معين، وإنما نحن نهتم بالدين وندعو إلى الدين، ولا يهمنا بعد ذلك أي جنس تكون، وأي لون تكون، وأي اسمٍ تنتحل، فإن المهم هو أن تكون ملتزماً بحقيقية الدين ومظهره وجوهره.
فلابد أولاً: أن نقوم بدعوة جادة إلى دين الله عز وجل، ولابد ثانياً: أن تكون هذه الدعوة موجهة للأمة كلها، فليست الدعوة إلى الإسلام حكراً على طائفة خاصة من المثقفين مثلاً، أو من الأذكياء، أو من الطلاب والشباب، أو من الدعاة، كلا، الدين نزل إلى الجميع، والأعرابي الذي يركض وراء إِبِلِه، أو يرعى غَنَمَه، قد نزل الدين له.
وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه لدعوتهم.
وقد يتساءل البعض: وماذا يستفيد الإسلام من أعرابي في الصحراء؟! أو مزارع في بستانه؟! فأقول: دَعْكَ من
Q ماذا يستفيد الإسلام من هذا الرجل؟! لكن اسأل ماذا يستفيد هذا الرجل من الإسلام؟ يكفيه أن ينقذه الله تعالى من النار، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم على يهودي، وهو في مرض الموت فقال له: قل: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) فنطق بها، ثم مات، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عنده، وهو يقول: {الحمد لله الذي أنقذه من النار} .
هذا الرجل اليهودي الذي أسلم لم يقدم للدين شيئاً، لكنه قدم لنفسه؛ فالدين جاء لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ووقايتهم من عذاب السعير ومن سخط الله تعالى؛ لأنهم سيحظون برضوان الله تعالى، فالذي يهمنا أن ننقذ الناس بدين الله تعالى، ولو لم يقدموا لدين الله تعالى شيئاً، ثم إن هذا الأمر جانب من تعظيم الإسلام لقدر الإنسان.