تزكية الله لنبيه

فما بالك بمن وصفه ربه بهذه الصفة، وأكدها بـ (إن) وباللام: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وجاءت (خلق) منكَّرة للتعظيم، ثم زاد أن وصف هذا الخلق بأنه عظيم {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وهكذا روى مسلم في صحيحه عن سعد بن هشام أنه سأل عائشة: ما كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: {أما تقرأ القرآن؟! كان خلقه القرآن، ثم قرأت قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] } كان خلقه القرآن يحرم ما حرم، ويحل ما أحل، ويأتمر بأمره، وينتهي عن نهيه، ويؤمن به، ويدعو إليه صلى الله عليه وسلم، فليس بغريب أن تحدث منه هذه الأعمال العظام التي هي أخلاق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا هو سرٌ من أسرار اختياره.

انظر إلى قصة عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وهو أحد كبار علماء اليهود في المدينة، ولكنه كان رجلاً منصفاً باحثاً عن الحق، فلما سمع بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال: {ذهبت إليه فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب} -والحديث رواه الترمذي وغيره، وهو حديث صحيح، أي: أنه قرأ على محيا النبي صلى الله عليه وسلم آيات الصدق والبر والوفاء فسمعته يقول: {يا أيها الناس، أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وأفشوا السلام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام} والشاهد قوله: عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب.

انظر الحادثة الأخرى المعبرة التي رواها النسائي وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم، حين فتح مكة أهدر دم مجموعة من القرشيين الذين كانوا يعلنون العداء للإسلام وللرسول عليه الصلاة والسلام، ويسبونه صلى الله عليه وسلم ويغدرون به، وكان منهم عبد الله بن أبي السّرح، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من وجد هؤلاء القوم أن يقتلهم ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، وكان عبد الله هذا أخاً لـ عثمان بن عفان رضي الله عنه لأمه، فجاء به عثمان خلف ظهره، وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستأمنه، فوقف بين يديه وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الأمان لهذا الرجل، فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم فطلب منه الأمان ثانية، وثالثة، فأمنه الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: {ألا رجل فيكم قام حين رآني سكت فقتله فقالوا: يا رسول الله هلاّ أومأت إلينا} -أي: لو أشرت مجرد إشارة ولو بعينك لابتدره أي واحدٍ منا فأجهز عليه، فورد أن النبي صلى الله عليه قال: {ما ينبغي لنبيٍ أن يكون له خائنةُ الأعين} يعني: حتى الإشارة بالعين يتجنبها النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً فظاهره وباطنه سواء، فلا يستعمل أساليب اللف والدوران، وطرق الساسة في الاحتيال والتأويل، وما وقع المسلمون -في هذا العصر ومنذ عصور- من كثرة التأويل في الاعتقاد، والأقوال، والأعمال، والمواقف، بل هو واضح كل الوضوح صلى الله عليه وسلم في مواقفه بحيث لا يجد أعداؤه عليه مطعنة.

لذلك لما بعث تحير القرشيون ماذا يقولون فيه، لأنهم لا يجدون أي ثغرة يمكن أن يتسللوا من خلالها، فيطعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الناس كلهم الذين يعرفونه يشهدون بصدقه، وعدالته، وكرمه، وجوده وحسن خلقه، حتى كان يعرف في الجاهلية بالأمين عليه الصلاة والسلام، فهذا جانب من هديه القولي والفعلي صلى الله عليه وسلم في مجال الأخلاق، وهكذا أرشد أمته صلى الله عليه وسلم إلى معالي الأخلاق، وحذرهم من سفاسفها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015