أما هديه العملي فيكفي أن تراجع سيرته، وتنظر كيف كان صلى الله عليه وسلم يعامل الناس كلهم، كيف كان يعامل أزواجه، وكيف كان يعامل أقاربه، وكيف كان يعامل أصحابه، وكيف كان يعامل أعداءه أيضاً، وإذا كان لا بد من سرد نماذج من هديه العملي صلى الله عليه وسلم، فلنقف قليلاً عند بعض المواقف التي لا تمثل إلا شيئاً يسيراً، منها: ما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم استدان من رجل مالاً، فجاء الرجل يتقاضى من النبي صلى الله عليه وسلم، فأغلظ له القول، فهمَّ به أصحابه فقال عليه الصلاة والسلام: دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً} وكان إذا استلف من أحد شيئاً أضعف له في الوفاء، ودعا له، وقال: {إنما جزاء السلف الجزاء والحمد} .
حتى أن يهودياً استدان منه الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن حبان وأبو الشيخ وغيرهما واسم هذا اليهودي زيد بن سعنة فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحل الأجل، وقال: يا محمد أوفِ بحقي، فإنكم يا بني عبد المطلب قومٌ مطلٌ -أي: أهل مطل، تماطلون في دفع الدين وسداده- فقام إليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فهموا به فنهاهم أيضاً، وورد أنه قال لعمر: {كنت وإياه أحوج إلى غير هذا منك، كنت أحوج إلى أن تأمرني بالوفاء، وكان أحوج إلى أن تأمره بالرفق} أو كما قال صلى الله عليه سلم فقال هذا اليهودي: ما من علامة من علامات النبوة أُثرت إلا وجربتها وبلوتها فوجدتها فيك، إلا ما ورد عن هذا النبي الخاتم أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، وقد جربتها فيك الآن؛ فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، وهذا الحديث قال فيه ابن حجر في الإصابة رجاله موثقون إلا أنه ذكر اختلافاً في أحدهم، وللحديث شاهدٌ آخر.
وذكر أبو الشيخ في كتاب الأمثال " {أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه عليه الصلاة والسلام -وكان جزل العطية يعطي الوادي من الإبل أو من الغنم، ويعطي البدرة من الذهب أو من الفضة، ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر صلى الله عليه وسلم- فأعطى هذا الأعرابي، ثم قال له: هل رضيت؟ هل أحسنا إليك؟ قال: لا، ما أحسنت، ولا أجملت.
وكان في حضرة أصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم -ومن المعلوم- مكانته عندهم عليه الصلاة والسلام وشدة تقديرهم له فغضبوا، وهموا بالأعرابي فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعوه، ثم انفرد به فأعطاه، فقال: هل رضيت؟ قال: لا، ثم أعطاه الثانية، فقال: هل رضيت؟ قال: لا! ثم أعطاه الثالثة، قال: رضيت؟ قال: نعم! فجزاك الله من أهلٍ، ومن عشيرة خيراً، فقال: إن في نفوس أصحابي شيئاً فلو أخبرتهم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال لهم: إن هذا الأعرابي أعطيناه فزعم أنه رضي، أفكذلك؟ قال: نعم، فجزاك الله من أهلٍ، ومن عشيرة خيراً، فقال عليه الصلاة والسلام مؤدباً معلماً لأصحابه: إنما مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل شردت عليه ناقته فجعل الناس يتبعونها، فقال: أيها الناس خلوا بيني وبين ناقتي -لأنه كلما تبعها الناس أسرعت وأمعنت في الهرب، والرجل أخبر بناقته- فقال: أيها الناس خلوا بيني وبين ناقتي، فجعل يجمع لها من قمام الأرض حتى ردها إليه هوناً هوناً، حتى لانت واستقامت، وإنكم لو قتلتم هذا الرجل حين قال ما قال لدخل النار} ".
فهذه نماذج موجزة قصيرة في طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في معاملة الناس، وفي حسن خلقه معهم.
وبإمكان أي فرد منا أن يرجع إلى الكتب المصنفة في شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم، ككتاب شمائل النبي صلى الله عليه وسلم للإمام الترمذي، وكتاب الشمائل المحمدية لـ ابن كثير، وكتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي الشيخ، والجزء الأول من كتاب زاد المعاد، وغيره من كتب السيرة النبوية ليجد أمثلة كثيرةً جداً بهذا الباب، وليس هذا بغريب، فقد وصفه الله تبارك وتعالى بقوله {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] .