مثال آخر في واقع الأمم الغربية: وهي أمم كافرة -كما ذكرنا- ولكنها سعت إلى إرساء دعائم العدالة بين أفرادها، وهذا أمر ليس بدعاً من القول، يقول لي بعض الناس: كيف تتكلمون عن الغرب؟ وكيف تثنون على بعض الجوانب المشرقة فيه؟ فأقول: يا سبحان الله! الأمة التي ائتمنها الله تعالى، وجعلها قيمة، وأمرها بالعدل تمتنع عن أن تشهد لقوم بحق موجود فيهم، أين نحن من قول عمرو بن العاص رضي الله عنه، كما في صحيح مسلم: {لما ذكر المستورد بن شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو بن العاص انظر ماذا تقول؟! قال: إني لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمرو بن العاص: أما لئن قلت ذاك إن فيهم لأربع خصال} لاحظ! عمرو بن العاص صحابي جليل يتكلم في تقويم الواقع الاجتماعي والسياسي للروم، ولا شك أن الغرب هم امتداد للأمم الرومانية، فـ عمرو بن العاص يقيم الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للروم أو الغرب فيقول: [[إن فيهم أربع خصال هم أحلم الناس عن الفتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم]] أي أن من مزاياهم التضامن التكافل الاجتماعي، وعندهم محاولة التفكير واستخدام العقول، وعندهم سرعة الإفاقة بعد المصيبة، وخذ مثالاً ما ذكرناه قبل قليل، لما تحطم الأتوبيس الفضائي، ما قالوا: انتهينا، ونلغي المحاولات، بعد أسابيع كرروا المحاولة ونجحت، ثم قال عمرو رضي الله تعالى عنه وأرضاه: [[وخامسة حسنة جميلة]] أفردها عمرو بن العاص لأهميتها في نظره، وفي نظر كل إنسان، وقال: [[وأمنعهم من ظلم الملوك]] إذاً هم فيهم قوة، وامتناع، وليس من السهل السيطرة عليهم، وليس من السهل ابتزازهم، وليس من السهل أن تقوم وتنشأ وتستقر عندهم النظم الاستبدادية المتسلطة التي تحكم الناس بالقهر والقسر وقوة الحديد والنار.
فنحن لا يمكن أن نقول في الغرب الآن أكثر مما قاله عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه في أمم الرومان، الأمم الغربية الآن تقيم أنظمة يسمونها ديمقراطية، ونحن نقول: هذه الأنظمة الديمقراطية هي أنظمة ديمقراطية في الظاهر، ولكنها في الحقيقة ديكتاتورية، كيف؟ صحيح أنهم لا يفرضون على الناس شيء بالقوة، ولكنهم من خلال وسائل الإعلام ذات التأثير البليغ على كل مواطن عندهم؛ يوصلون إلى عقول الناس ما يريدون.
فإذا أرادوا من الناس التصويت لصالح أمر من الأمور سلطوا وسائل الإعلام على التصويت لهذا الأمر، وفي النهاية يحصل الأمر الذي يريدونه برضا الناس وطواعيتهم وقناعتهم وليس بالضغط أو الإكراه، ولكن هذا كله لا ينفي صبغة الديمقراطية عنهم، ولذلك تجد أن الأمم الغربية أمماً مستقرة، ليس فيها قلاقل وزلازل وزعازع واضطرابات أمنية، وبالتالي أصبحت مكاناً للاستثمار الاقتصادي، بل تؤوي حتى المضطهدين -مع الأسف الشديد- من بلاد الإسلام، وقد رأيت بعيني المطرودين من ظلم وبطش الأنظمة المستبدة في العالم الإسلامي، والله رأيتهم في بلاد الغرب، وأعدادهم أحياناً تصل إلى عشرات الألوف، بل مئات الألوف، ربما أحياناً تقول: أمم بأكملها، ودول بأكملها لم يبق منها في البلاد إلا من يجيد فن النفاق، أما الذي لا يستطيع أن يعيش في جو النفاق الموبوء، فإنه اضطر إلى أن يهرب بدينه.