فهي ثابتة ومطردة إلا أن يشاء الله، لا يعارض ذلك وجود الخوارق والمعجزات والكرامات، فإن الخوارق والمعجزات والكرامات هي نفسها سنة إلهية أخرى، فمثلاً قبل قليل قرأت عليكم قوله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} [الفتح:23] .
إذاً من سنة الله تعالى أنْه إذا التقى المسلمون مع الكافرين، وبذل المسلمون وسعهم وطاقتهم، ومع ذلك بقى هناك نقص، فإن الله تعالى يسدد نقصهم برحمة من عنده، ويعينهم بجنوده التي لا يعلمها إلا هو: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] فيسلط على عدوهم الريح، أو الخسف، أو الزلزال، أو الطوفان، أو الفيضان، أو الغرق، أو المرض، أو أية آفة من الآفات، حتى تضعف قوته، وطالما أثر ما يسمونه بالكوارث الطبيعية المفاجئة في نتائج الحروب.
فالجليد -مثلاً- قد يغير نتيجة معركة، والخيانات في أوساط الكفار قد تغير نتائج المعركة، وهناك أمور كثيرة جداً ليس هذا مجال الحديث عنها، المهم أنه حتى المعجزات والخوارق والكرامات، أو ما يمكن أن يعبر عنها بالتعبير الشرعي: وهو الآيات، حتى هذه لها سنة إلهية بإذن ربها وهي مربوطة بها، فالسنة ثابتة، ويقابلها سنة أخرى وأحياناً تتقدم عليها.
الخاصية الثانية من خصائص السنن الإلهية: الشمول؛ أي أن هذه السنن شاملة لجميع الأمم بدون استثناء، فكوننا نسمى المسلمين، أو نعيش في رقعة إسلامية، أو لنا تاريخ معين أو انتماء معين، لا يغير من واقع السنن الإلهية شيئا قط، كلا يقول الله عز وجل: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123] فليست القضية مجرد تمنيات، أو أحلام، أو أقوال، أو ادعاءات، بل القضية قضية عمل وجزاء، من يعمل سوءاً يجز به، في الدنيا ويجز به في الآخرة، أما جزاء الدنيا فإن الإنسان إذا جد واجتهد حصل على النتيجة التي يعملها، وأما في الآخرة فكما قال الله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:19] .
بل حتى الرسل! يقول الله تعالى لنبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:66] فحتى الرسل تحق عليهم هذه السنة.
ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الحسبة: " إن الله تعالى ينصر الدولة العادلة أو يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، أو مؤمنة، فالباغي يصرع في الدنيا، وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة، وذلك لأن العدل هو نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها عند الله تعالى من خلاق"، وهذا الكلام الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله كلام مشرق نظيف يدل عليه التاريخ، كما يدل عليه الواقع.
فمثلاً: اليوم نحن نرى الأمم الغربية وهي أمم كافرة بجميع المقاييس، -وهذا أمر معروف- لكن هذه الأمم الغربية سعت فحصلت ما سعت إليه.
فمثلاً: سعت إلى التقدم التكنولوجي والصناعي، فاستطاعت أن تصل من ذلك إلى شيء لا يزال المسلمون عاجزين عن فهم بعضه، فضلاً عن مجاراته أو الوصول إليه في كثير من الأحوال، وهذا بكد يمينهم، فإن الله تعالى جعل في المادة أيضاً نواميس من استطاع أن يكتشفها سخر الله له هذا الكون كما هو معروف: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:13] حتى وصلوا إلى مسألة تفجير الذرة، وإلى أشياء وأمور، واكتشافات ما كان الناس يتوقعونها خلال قرون طويلة، فضلاً عن عشرات السنين، ومن عرف -مثلاً- الاكتشافات العلمية، أو الطبية، أو الصناعية؛ فإنه يصاب بذهول عجيب، فهذا سبب وصلوا من خلاله إلى نتيجة.