هذا كله يقع مع الأسف الشديد، بل إنني أقول: إن كثيراً من تلك الأمم، وتلك الدول الكافرة المحاربة، كثيرٌ منها تتعامل مع المسلمين أحسن مما تتعامل أنظمة إسلامية مع المسلمين أنفسهم، ولذلك في مرة من المرات التقيت ببعض المسلمين هناك، وكنت أتكلم عن قضية الإقامة بين أظهر المشركين، وتحريم الإقامة بين أظهر المشركين، وأذكر الآيات والنصوص الواردة في ذلك، واستطردت فيه واستفضت، فلما انتهيت قاموا عليّ، وأحرجوني أيما إحراج، قالوا: بالله عليك انقلنا إلى أي مكان تريد في بلاد الإسلام، إذا كنا هنا نعمل برواتب ضخمة وبأعمال كبيرة، فنحن نقبل وعلى يدك أو يد أمثالك أو يد غيرك من الناس، ومن الدعاة وممن يأتوننا، فيعاتبوننا ويوبخوننا، نقبل أن نعمل ولو كنا في كنس الشوارع في بلاد الإسلام، لكن أين هذا؟ وكيف يكون هذا؟ نحن نحترق شوقاً إلى بلاد الإسلام، نتحرق شوقاً إلى الأذان يجلجل في سمائها، نتحرق شوقاً إلى المساجد والمقدسات، يقول قائلهم: كم ذا أحن إلى أهلي إلى ولدي إلى صحابي وعهد الجد واللعبِ إلى المنازل من دين ومن خلق إلى المناهل من علم ومن أدبِ إلى المساجد قد هام الفؤاد بها إلى الأذان كلحن الخلد في صببِ الله أكبر هل أحيا لأسمعها إن كان ذلك يا فوزي ويا طربيِ إني غريب! غريب الروح منفرد إني غريب! غريب الدار والنسبِ ألقى الشدائد ليلي كله سهر وما نهاري سوى ليلي بلا شهبِ أكابد السقم في جسمي وفي ولدي وفي رفيقة درب هدها خببي هذا لسان حال أكثرهم، ولكنهم لا يجدون مفراً من ذلك.
ومثلٌ آخر أقرب: دولة إسرائيل التي تحارب الإسلام والمسلمين اليوم، وهي تمثل التحدي المباشر لنا جميعاً، هذه الدولة بماذا تفتخر؟ بماذا استطاعت إسرائيل أن تكون دولة نموذجية في نظر العالم؟ لأنها أولاً دولة القوة، فهي لا تتعامل بالألاعيب والضحك على الذقون والخداع للشعب، تتعامل بالوضوح والنقاء، وتعد شعوبها فتفي بما وعدت، وعدتهم بأن تؤمنهم ففعلت، وضمنت لهم قدراً من القوة لا تملكه كثير من الدول العربية، بل أكثرها، بل كلها، وهي أيضاً دولة تفتخر بأنها دولة قد أرست دعائم الحكم الذي تسميه -ويسمونه- هم بالحكم الديمقراطي، فكل واحد من زعمائها يراعي حال الناس، يراعي أمورهم، ويسعى إلى كسب رضاهم، لأنه يدري أنهم إذا لم يرضوا عنه فإنهم لن يرشحوه، ولن ينتخبوه مرة أخرى، ولذلك كانوا مخلصين أمناء على مصالح شعوبهم.
أما حين تنتقل إلى الصورة المقابلة صورة الدول العربية والإسلامية، فماذا ترى؟ ترى أولاً تحطيم إنسانية الإنسان، ونحن لن نخاطب هؤلاء من منطلق الدين والإسلام، لأن كثيراً منهم ممن تربوا في أحضان الغرب، وهم من العلمانيين الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، فإذا حادثتهم وخاطبتهم من منطلق أنهم اعتدوا على الدين، وحطموه، قالوا لك: هذا مقتضى الوحدة الوطنية، وقد رأينا الوحدة الوطنية في عدد من البلاد الإسلامية، الوحدة الوطنية أن مائة وخمسين مليون مسلم في بلد عطلتهم يوم الأحد، هذه هي الوحدة الوطنية، الوحدة الوطنية أن مائة وخمسين مليون مسلم لا يقام لهم مسجد إلا ويقام بجواره كنيسة، ويقام بجواره معبد للبوذيين أو الهندوس، الوحدة الوطنية إنه إذا قُدم للمسلمين برنامج في الإذاعة أو التلفاز في يوم الأحد أو الاثنين، قُدم للنصارى في يوم الثلاثاء، وقدم للبوذيين في يوم الأربعاء.
هذه هي الوحدة الوطنية عندهم!! أقول: حين تنظر إلى البلاد الإسلامية، تجد التخلف العلمي والتقني، والابتزاز الاقتصادي، وإهدار إنسانية وكرامته، وكأن الواحد منهم ينهب نهبا بسرعة، لأنه يقول: لا أدري قد لا أُمكَّن إلى الغد، فهو يحاول أن يغتنم كل دقيقة وساعة لينهب ما استطاع، من أموال الناس وأعراضهم، وخيراتهم وكل هم أولئك الزعماء هو أن يضمنوا لأنفسهم مستقبلاً زاهراً إذا ما طردوا من كراسيهم ومناصبهم، ولذلك ينتقل المسلمون من استبداد إلى استبداد، ومن بطش إلى بطش، يفرحون بحاكم جديد، فإذا به أشر وأشدّ سوءاً من الأول وهكذا.
ومع ذلك أقول: إن هذه الأشياء لا يجوز ولا يمكن أن يحابي فيها أحد، لأن سنة الله تعالى كما حقت على الغرب، وحقت على اليهود، وحقت على النصارى، وحقت على الشيوعيين، كذلك تحق على المسلمين، فهؤلاء المسلمون المستضعفون، لم يكونوا مظلومين: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33] .
من هؤلاء الساكتون؟ أفهؤلاء المسلمون أبداً تكذبني وترجمني الحوادث والظنون {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76] إذاً سنة الله تعالى شاملة للجميع بدون استثناء خصائص السنة الإلهية أيضاً أنها سنن واقعية: أي أنها تتحقق من خلال تسخير الله تعالى الناس، فمثلاً الظالم حينما يعاقب، على أيدي بشر آخرين، يسلطهم الله تعالى عليه ممن هم أقوى منه يداً، وأشد منه بطشاً، فينتقم الله تعالى من الظالم بظالم مثله، وكذلك الكفار يعاقبهم الله تعالى بالمؤمنين كما قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14] يعذبهم الله تعالى بالمؤمنين: {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14] .
إذاً هذه السنن تتحقق من خلال عمل الناس وسعيهم، فهي إذاً حادٍ للعمل، وداعٍ للفاعلية والإيجابية والمشاركة، وليست مجالاً للقعود، لأن بعض الناس يقول: ما دام الأمر سنناً إلهية، فلماذا نعمل؟ لماذا لا نترك السنن الإلهية تعمل؟ أقول: لا! السنن الإلهية تعمل من خلال عمل البشر أنفسهم، يسخر الله تعالى الناس لتحقيق هذه السنن والسعي في طريقها أو اتجاهها الصحيح.
إذاً ليس في إقرار السنن دعوة للمظلوم أن يرضى بالظلم، بأن يقول هذه سنة، لا! ولا دعوة بأن يرضى بمصادرة حرياته وحقوقه أو تقبيل اليد التي تغتاله، لا، إنما هي دعوة إلى أن يقاوم هذا الظلم، وأن يعرف أنه ما حاق عليه الظلم إلا بسببه هو، وقد قال الله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] إذاً السنن الإلهية سنن فعالة، من خلال عمل الناس أنفسهم، وهذا في الإسلام ظاهر كما أسلفت، قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:14] ويقول عز وجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} [التوبة:52] عذاب سماوي {أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52] إذاً قد يكون العذاب على أيدي البشر أنفسهم.
أما الشعوب الأخرى، فكثيراً ما تجهل هذه السنن، أو يتجاهلونها ويعتقدون أن هناك شيئاً سماوياً ينزل عليهم دون أن يكون لهم فيه جهد يحسب.