ومثله قوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] وقول اليهود -لعنهم الله عز وجل- معناه أنهم نسبوا لله عز وجل إلى البخل وعدم الإنفاق عليهم، فإن اليهود ينسبون إلى الله تعالى نقائص كثيرة كما حكى الله عنهم: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181] ونسبوا إليه الحزن والبكاء، ونسبوا إليه وإلى غيره من الأنبياء والمرسلين في كتبهم نقائص كثيرة، وذلك لأنهم جبلوا على الفساد والفجور والطغيان والوقاحة، ومنها:- أولاً: نسبوا إلى الرسل شرب الخمور، والوقوع في الزنا، وغيرها من الفواحش ثم تجرءوا بعد ذلك على الله عز وجل فنسبوا إليه من النقائص ما ذكره تعالى في كتابه، وأيضاً نسبوا إليه أشياء لم تذكر في القرآن الكريم، لكنها موجودة في كتبهم، منها قولهم هاهنا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] أي: لا يبسطها بالإنفاق، قال الله عز وجل: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64] وهذا حكم منه جل وعلا بغل أيديهم ولعنهم بما قالوا، ولذلك فإن اليهود مغلولة أيديهم، فهم لا ينفقون، ولا تمتد أيديهم بالخير إلى الناس، وهم ملعونون {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:112] وعلى مدى تاريخهم الطويل كانوا أذلة، وكلما ارتفع لهم رأس سلط الله عليهم من الملوك والكبار من يسومهم سوء العذاب {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167] .
ولا يغترن مغتر بتسلطهم في هذا الزمان، فإن هذه فترة استثنائية قليلة، ولو نظرنا إلى دولة إسرائيل لوجدنا أنها نشأت منذ وقت قريب منذ خمسون أو ستون سنة في ميزان الله، وليست شيئاً مذكوراً، إنما {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} [الدخان:59] إنهم الآن يتهيؤون؛ لأن يحقق الله فيهم وعده، بأن يسلط عليهم من يسومهم سوء العذاب: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسرائيل فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:4-8] إذاً هو وعد ثابت إلى قيام الساعة {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8] .
فالمؤمن بالقرآن والسنة يوقن كما يرى الشمس بعينه أن لليهود جولة قادمة، سوف يسحقهم فيها عباد من عباد الله عز وجل، ويقتلونهم فيها قتل عاد وإرم، هذا وعد لا يقبل الشك؛ لأنه ممن لا يخلف الميعاد؛ وما ذلك إلا لبغيهم وعدوانهم ووقاحتهم وجرأتهم على الله تعالى ورسوله، ولهذا قال هاهنا: {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64] .
ثم قال عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] وهذا هو الشاهد، فإنه أثبت لنفسه أن له يدين، ووصفهما بالبسط، وهذا ولا شك دليل على إثبات صفة اليدين لله جل وعلا.