Q الضغط الجماهيري إلى أي درجة يمكن الاستفادة منه وكيف يمكن تحريك مثل هذه القوة يا شيخ؟
صلى الله عليه وسلم لا شك أن كل مسلم ينبغي أن يستفاد منه بقدر طاقته وشخصه، وليست الواجبات الشرعية مقصورة على فئة معينة، فليست مقصورة على العَالِم، ولا مقصورة على الحاكم، ولا مقصورة على الداعي، وإنما هي شاملة للجميع، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام لما أمر أصحابه بالصدقة: {تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره حتى قال ولو بشق تمرة} .
ففي مجال الصدقة نحن لا نعدها موقوفة على التجار، وإنما نطالب أيضاً متوسط الحال، أو من هو دون المتوسط أن يساهم بقدر جهده، وهكذا كل التكاليف الشرعية، يطالب الإنسان فيها بقدر جهده، وإذا كان هذا في التكاليف الفردية التي تلزم الإنسان، فالتكاليف العامة التي تجب على الأمة كلها إذا حصل فيها تقصير وهي الواجبات الكفائية، كالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد وما أشبه ذلك من الواجبات العامة، المنوطة بعنق الأمة كلها.
وأيضاً يجب على كل إنسان قادر بحسب إمكانياته فيها، والملاحظ أن كثيراً من خصوم الإسلام، سواء أكانوا خصوماً أصليين، كالكفار الأصليين، أم كانوا خصوماً طارئين كالمرتدين والمنافقين وضعاف الإيمان -أيضاً-، يحاولون تحجيم وجود الأمة الإسلامية، عن طريق عزل الشعوب عن أداء دورها، حتى يتخلصوا من إمكانيتها ومن قدراتها، ويجعلوا القضية قضية فئة خاصة؛ لذلك كثيراً ما تجد بأن هذا -مثلاً- توجه إلى فئة بعينها، أو طائفة، أو مجموعة، أو حزب، أو تيار، ويحاول أن يصور للناس هؤلاء بصورة قد تكون مناقضة كثيراً أو قليلاً لواقعهم، حتى يحال بينهم وبين القيام بالأمر نفسه.
فيصور -مثلاً- أمر التعليم على أن هؤلاء الذين يقومون بالتعليم فئة خاصة، أو الدعوة أو الجهاد، وقد ينتقص من قدرها فيوصف المجاهد بأنه أصولي أو إرهابي مثلاً، ولو كان يجاهد جهاداً شرعياً منضبطاً مدروساً تقتضيه الحال إلى غير ذلك.
والقصد من ذلك هو عزل الأمة عن قضاياها وإبعادها وتفريغ الأمة من مهمتها العظيمة، وبطبيعة الحال إذا تحقق هذا -لا قدّر الله- فأول الخاسرين هي الأمة نفسها؛ لأنها لم تعد لها قضية تعيش من أجلها.
ثانياً: القضايا نفسها خسرت، لأن القضية التي لا تكون وراءها أمة تتعب وتبذل في سبيلها، وتتحمس لها، فإن هذه القضية تضعف؛ لأنها عندما تكون قضية أفراد، أو حتى قضية جماعات أو فئات محدودة، فإنها لا تحظى بالنجاح والزخم العظيم والتأثير مثلما إذا كانت قضية الأمة بكل مستوياتها: قضية الأفراد، وقضية الرجال والنساء والكبار والصغار والمتعلمين وغير المتعلمين، فرق كبير بين هذا وهذا.
والمؤسف أن أعداء الإسلام وخاصة الكفار الأصليين، في الوقت الذي يحاولون عزل الأمة المسلمة عن قضاياها الحقيقية، وشغلها بالأمور التافهة كأمور الرياضة -مثلاً- أو أمور المعاش والركض وراء لقمة العيش، أوالأمور الدنيوية البحتة الصغيرة، وليست الدنيوية المفيدة العظيمة الكبيرة والمؤثرة، ففي الوقت الذي يحاولون فيه تفريغ الأمة من قضاياها، وصرف العامة -عامة المسلمين- عن الاشتغال بهذه الأمور التي هي جزء من الواجب الشرعي العام، كل بحسب ما أعطاه الله تعالى، فإنهم يحترمون شعوبهم ويقدرونها ويعطونها الاهتمام، -كما هو معروف- يعني: يهتمون بها حتى في صغير القضايا، فيستشيرونها في من يولونه الأمر، حتى فيمن يكون عمدة لهذا الحي، أو مسئولاً عن هذا الشارع، أو مديراً لهذا القسم، فضلاً أن يجيدوا أمورهم بالجملة، يستشيرونهم في مثل هذا الأمر، ويعملون باستمرار الاستبيانات والأسئلة التي تكشف ما يسمونه هم (بالرأي العام) ويعتمدون على هذا، ويقيمون وزناً لما يقوم في بلادهم هم، وفي غيرها -أيضاً- من المظاهرات والمسيرات، والإضرابات، والاحتجاجات التي هي نوع من التعبير عن الرأي الشعبي عندهم، ويجسون نبض الشعوب ومدى تفاعلها وتعاطفها مع تلك القضايا، ويقيمون وزناً لذلك كله في بلادهم، بل وأكثر من ذلك أنه لو قتل فرد واحد منهم في أي بلد؛ لأقاموا الدنيا وما أقعدوها، وتكلموا واحتجوا، بل وربما يحصل من جراء ذلك شيء عظيم.
أمس -مثلاً- نسمع في الأخبار أن أمريكا سحبت آخر قواتها من الصومال، ثمان وعشرين ألف جندي، لماذا؟! نتيجة لمقتل عدد قليل من هؤلاء، وهم يقومون بالمهمة التي نذروا أنفسهم لها في أرض الصومال المسلمة.
أما فيما يتعلق بالمسلمين فهم لا يقيمون لهم وزناً، حتى لو مات منهم لا أقول: مئات، ولا أقول: ألوفاً بل مئات الألوف، كما هو حاصل في البوسنة، أو في طاجكستان، أو في عدد من البلاد العربية وغير العربية، لا يقيمون لذلك وزناً، ولا يتكلمون عن حقوق الإنسان، كأن المسلم ليس إنساناً، أو ليس له حقوق يجب أن يتحدث عنها، وكأن الإنسان عندهم هو فقط ذلك الإنسان الأبيض، أو ذلك الإنسان الأوروبي أو الأمريكي، أو ذلك الإنسان النصراني، حتى إنهم في الوقت الذي يحاولون فيه أن يرفعوا قيمة شعوبهم وأهميتها، ويتحدثون عنها ويعطونها حقها، يحاولون صرف أو تصريف الشعوب الإسلامية من قيمتها وأهميتها، وعدها مجرد أرقام لا وزن لها؛ بل أقول: حتى لا يعدونها مجرد أرقام، فأنت عندما تتساءل عن سكان البلاد الإسلامية، لا تجد أن هناك اهتماماً بتعداد السكان -مثلاً- في تلك البلاد، أو معرفة دقيقة بهم، وقد يكون الفرق أحياناً بين تقدير وتقدير آخر بالملايين؛ لأنهم يعدون هذه أرقاماً ليس لها وزنٌ كبير، سواء أزادوا مليوناً أم نقصوا، بل هم ربما يهمهم أن يكون العدد أنقص مما هو في الواقع.
لكن يزعجهم -مثلاً- أن تقول التقارير والتقادير: إن عدد سكان المسلمين والمقصود بطبيعة الحال المسلمون الجغرافيون، يكون عددهم مليار ونصف مليار، وهذا يشكل أكثر من خمس سكان الكرة الأرضية، فيعني هذا من التناقض الغريب، الذي يشهده المتأمل اليوم، ولعلي استطردت في هذا الموضوع.
وفي الوقت نفسه يبقى في سؤالك -لأنه سؤال مهم فعلاً-، يبقى فيه جوانب أخرى ما دمنا نقول: إن المسلم -أي مسلم- يجب أن يكون له دور يؤديه، ويجب ألا يعزل عن قضاياه، نعود إلى أنه من الطبيعي أن يكون للمسلمين قيادات علمية، وشرعية، ودعوية، وإصلاحية، يكون لها خصوصية في العلم والفهم والرأي، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] فذكر الرد إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا إلى شخصه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته، والرد إلى أولي الأمر، الذين يعرفون الأشياء ويستنبطونها، ويعرفون النتائج من مقدماتها الطبيعية، فهذا أمر لا اعتراض عليه ولا إشكال فيه.
ولا يعني كلامي السابق، أو كلام غيري أن يكون الناس كلهم جميعاً يتعاطون الخطايا على حد سواء، فلا شك أن العَالِم الذي يعرف الأمور، ويعرف الشرع، والأحوال، والمجريات، ويتوقع النتائج، وكذلك مع العلم العقل -أيضاً- لأن العاقل أحياناً حتى لو لم يكن عالماً، فإنه قد يدرك الأمور والنتائج والبدايات والنهايات، ويعرف التصرف المناسب، فلا بد أن هؤلاء لهم مزيد اختصاص واهتمام وشورى، وأيضاً العامة ينبغي أن نستفيد منهم في سقف معلوم وفي إطار معلوم؛ لأن أمورهم لا تنضبط تماماً، وطريقة الاستفادة من عموم المسلمين، طريقة لا بد من حبكها وبسطها؛ لأن الناس في مجملهم لهم إقبال ولهم إدبار ولهم -أحياناً- نبضهم، أحياناً يرتفع وأحياناً ينخفض، وتجاوبهم يقل ويكثر وأوضاعهم تتفاوت، فالقضية تتطلب حنكة وفهم وإدراك، وتحسس لهؤلاء الناس بحيث يعرف الإنسان كيف يستثمرون، ومتى يستثمرون وفي أي موضوع، فلا يعطيهم -مثلاً- فوق ما يقدرون عليه، أو فوق طاقتهم، فإذا فوجئ بأنهم لم يفعلوا أصيب بخيبة أمل، وربما كان الخطأ من عنده هو؛ لأنه انتظر منهم ما لا يقدرون عليه، أو يهملهم ويعد أنهم ليس لهم قيمة وليس لهم أثر ولا اعتبار، ويجب أن يلغوا من الحساب، وهذا خطأ كبير؛ لأن إلغاء مئات الملايين من المسلمين من الحساب ليس بالأمر السهل، بل على النقيض، يجب أن يكون لهم وزن واعتبار، ولهم تأثير في القضايا، وأن يستفاد منهم في مجالات كثيرة.
أنا ضربت -مثلاً- في أول الحديث بموضوع الإنفاق مثلاً: {تصدق رجل من ديناره} الأول لو طلبت من تاجر والأزمات الإسلامية كثيرة جداً، والحاجة ملحة والاقتصاد يتراجع، {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] كما ذكر الله تعالى، فتجد أن كثيراً من التجار والأثرياء ربما تقلصت أيديهم عن العطاء بعض الشيء، أو تراجعت أو ضعفت، فبدل من أن ينفق مائة ألف، أصبح ينفق خمسين ألفاً.
لكن لو تصورنا إنفاق العامة في حملة إعلامية لجمع التبرعات منهم، حتى لو أعطى الواحد منهم مبلغاً زهيداً فإن المجموع سيكون ضخماً، وقل مثل ذلك في توعيتهم إعلامياً بقضاياهم، بحيث يعرفون عدوهم من صديقهم، ويعرفون الحق من الباطل في الجملة، ويعرفون الشيء الذي يجب أن يكونوا معه، والشيء الذي يجب أن يكونوا ضده، بل لو لم تظفر من العوام إلا بدعوة صالحة؛ لأنهم لا يعدمون أن يكون فيهم صادق النية، طيب القلب، مستجاب الدعوة، لو أقسم على الله تعالى لأبره، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره} فهذا ليس من المشاهير ولا من المعروفين ولا من الكبار، لأنه لا يؤبه له، ومع ذلك ذكر النبي عليه الصلاة والسلام، لو سأل الله تعالى بصدق لأجابه الله تعالى، ولو أقسم على الله لأبره.