صحة منهج الداعية

Q كيف يستطيع الداعية المصلح أن يقدم صحة منهجه؟ وهل الفصل أو الإيقاف أو السجن يعتبر من دلائل النجاح أو الفشل؟

صلى الله عليه وسلم صدق المنهج يعرف من خلال الأدلة الشرعية، والله سبحانه وتعالى جعل لنا معياراً، وهو الكتاب والسنة والإجماع، فهذا هو المعيار الذي يعرف به صدق المنهج من عدمه، هذا من حيث الجملة، وتفاصيل ذلك لا يعلمها كل أحد، إنما يعرفها من رزقه الله سبحانه وتعالى علماً وفهماً، وأيضاً من آتاه الله تعالى تجرداً وإخلاصاً وسلامة في قلبه، بحيث يكون عنده هوى، يحدوه إلى أن يصحح هذا ويخطأ هذا، ويصوب هنا ولا يصوب هنا، من غير استنارة بالدليل الشرعي، أو أحياناً بأن لا يحس الاستفادة من الدليل الشرعي، فيضع الدليل في غير موضعه، أو يستنبط من النص الشرعي آية أو حديثاً ما لا يدل عليه، إلا بنوع من التحكم ونوع من التعسف لا يقبل، فالمعيار الشرعي هو القواعد الشرعية بالجملة، النصوص الشرعية، المقاصد العامة للشريعة، هذه هي المعايير التي يعرف بها الحق أو الخطأ من الصواب، مع أن الخطأ والصواب في أمر الدعوة وارد، فقد يجتهد الإنسان ويتحرى الصواب ويخطئ، ونحن نعرف -مثلاً- من الفقهاء السابقين، فقهاء الصحابة والتابعين، أنهم اجتهدوا في مسائل كثيرة فقهية، بل هي أخطر من حيث إنها مسائل فيها نصوص شرعية، مسائل: الطهارة والصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والجهاد، والطلاق، والزواج، والقضاء، وغيرها، اختلفوا فيها مع وجود النصوص الكثيرة فيها، ولا نشك أن مجمل العلماء والفقهاء كانوا مخلصين يتحرون الصواب ويبحثون عنه، ومع ذلك فقد يوفقون أو لا يوفقون إليه، وهم مأجورون {فإن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد} ، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عمرو بن العاص المتفق عليه.

إذاً قضية الخطأ في الدعوة واردة، فإذا علمت أن الإنسان اجتهد فهذا خير، ولو أخطأ ينبغي أن أسعى في تصحيحه وتصويبه بقدر المستطاع، فإذا رأيت أن هذا هو الذي وصل إليه وأدى إليه اجتهاده، وهو الذي يدين الله تعالى به، فليس لي أن ألزمه بما عندي، فإنه قد يجوز أن يكون الخطأ عندي أنا، ومن الطبيعي أني أرى ما عندي صواباً، وما عنده خطأ، لكن هذا الذي أراه ليس ديناً ملزماً، لكنه اجتهاد قد يكون صواباً وقد يكون خطأ.

فالمهم أن المعيار في معرفة ما عليه الداعية أهو خطأ أم صواب، أحق أم باطل، ينبغي أن يكون مرده وإلى الشرع إلى القواعد الشرعية، والنصوص، والمقاصد الشرعية العامة وما أشبه ذلك.

هناك أمور يختلف الناس في النظر إليها، فمثلاً: نتائج العمل فبعض الناس يحكم على العمل من خلال نتيجته، وهذا الأمر يحتاج الكلام فيه إلى دقة، فليست النتيجة دليلاً قطعياً على الصواب أو الخطأ، فمثلاً النبي عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح {أنه يأتي يوم القيامة النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد} .

إذاً هناك أنبياء بعثوا وماتوا أو حتى قتلوا، وما استجاب لهم أحد، إذاً قد يوجد دعوة تقوم وتبذل وتستميت وتضحي وفي النهاية ما تحقق شيئاً، فهل نستطيع أن نحكم أن هذا دليل على فشلها؟ لا، نحن نقول: إن هذه الأمة -الأمة الإسلامية-، أمة معطاءة، قوية تتجدد في التاريخ كما دلت النصوص الشرعية، أمة لا تتوقف عن الإنتاج، ولا تتوقف عن التجدد والتغير نحو الأفضل في الجملة، كما أخبر النبي عليه السلام في حديث أبي هريرة عند أبي داود {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} وكما قال عليه الصلاة والسلام: {أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره} وهو حديث حسن، وهناك نصوص كثيرة جداً تدل على أن الخيرية في هذه الأمة باقية إلى قيام الساعة، وإن كانت تتفاوت من زمان إلى آخر، أو من بلد إلى آخر، وتتفاوت من شخص وطائفة إلى شخص وطائفة أخرى.

فمثلاً: الأمة في الجملة أمة إنتاج وأمة عطاء، وأمة رجوع، يعني: إذا صاح بهم الداعي والصائح انجذبوا إليه، وركضوا وجفلوا وأقبلوا -هذا معلوم بالجملة-، لكنه ليس أمراً قطعياً أن يحدث هذا دائماً وأبداً، وأيضاً حتى هذا الأمر لا يلزم أن تكون نتيجته نصراً حاسماً للدين، أو قيام حكم بشريعة الله تعالى، أو انتصار في معركة جهادية على الكافرين، فهذا ليس بلازم لزوماً قطعياً، فقد يحدث وهو الغالب، أو لا يحدث.

أمر آخر: هو أن كون الأمة أو الأفراد يصابون في أنفسهم، بأنواع من البلاء والأذى، كالسجن والتشريد من بلادهم، والقتل والأذى والتعسف وألوان الظلم والقهر والاضطهاد، كل هذه الأشياء هي أمور طبيعية من حيث الجملة، لا بد أن تواجه الداعية، بل إني أقول: إنها غالباً تواجه كل داعية يرمى إلى التجديد، سواء أكان داعية إسلامياً، أم حتى لو كان داعية إلى غير الإسلام.

اقرأ سير الدعاة إلى الشيوعية مثلاً: ماذا لقي؟ حتى كارل ماركس، أو إنجلز، دعاة كثيرون، وكثيرون جداً من دعاة الفلاسفة ومن دعاة المذاهب الوضعية وغيرهم، كم لاقوا، وكم عانوا، وكم سجنوا، وكم أوذوا؟! ونحن نسمع أن هذا سجن ثلاثين سنة، ثم خرج، وهذا سجن أكثر وهذا أقل، وهذا أوذي وهذا طرد، وهذا أخرج من بلده، وهذا أعدم أو قتل، وهم على غير ملة الإسلام، فكيف نتصور أن تغيير الواقع نحو الأفضل إسلامياً، وأن صياغة النص صياغة شرعية، أنها لا تتطلب جهد أو تضحية أو بذلاً أو عناء.

إذا كنا نطمع في تغير واقع المسلمين، فيجب أن نتوقع أن نلقى ما لقيه قبلنا الدعاة الصالحون المصلحون، وعلى رأسهم سيد الدعاة وإمام الأئمة، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج من بلده، وأوذي، وطُرد، وحاولوا قتله مرات ونصبوا مؤامرات لاغتياله، وقاتلوه في ميدان المعركة، ورموه بسائر التهم، وحاصروه إعلامياً {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:30] فهم حاولوا قتله أو إخراجه من بلده، أومنعه من الخروج من البلد حتى لا تنتشر الدعوة ليحال بينه وبين الناس، فقد حاولوا معه وحاولوا مع غيره من الأنبياء والرسل عليهم السلام، لكن في النهاية تمت كلمة ربك الحسنى عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما صبروا، ودمر الله تعالى ما كان يصنع الكفار وما كانوا يعرشون.

فالابتلاء سنة لابد منها، ولهذا يقول الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:3] وقال كما في حديث ابن عباس في قصة هرقل قال: {كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة} والشافعي رضي الله عنه سئل أيهما أفضل للرجل: أن أو يبتلى؟ قال: لا حتى يبتلى، فالابتلاء سنة إلهية في أن يبتلى الدعاة في دعوتهم ودينهم، ثم يختار الله تعالى لدينه من يشاء، وقد ينتصر الدين الآن أو بعد عشر أوعشرين سنة، على أيدينا أو على أيدي أبنائنا أو أحفادنا، أو أبناء أحفادنا، هذا أمر غيبي يعلمه الله وإن كنا نتطلع بحكم جبلتنا البشرية، واستعجالنا إلى أن نرى نصر الدين بعيوننا، وتفرح به قلوبنا ونُسَّربه، لكن الله تعالى يفعل ما يشاء، وليس ما نشاء نحن، ويحكم ما يريد وليس ما نريد نحن، والإنسان من طبيعته العجلة، كما في حديث خباب في صحيح البخاري لما قال: {شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: يا رسول الله ألا تدعو لنا! ألا تستغفر لنا! فقال عليه الصلاة والسلام -وكان نائماً فقعد وأحمر وجهه عليه الصلاة والسلام- ثم قال: قد كان الرجل قبلكم يؤتي به -يعني من المسلمين- فيحفر له في الأرض فيوضع فيها، ثم يوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه من عصب، لا يثنيه ذلك عن دينه} يعني: قد ابتلى من قبلكم فلماذا أنتم مستعجلون؟ ولماذا أنتم قد ثقل الأمر عليكم؟ - ثم قال عليه الصلاة والسلام: {والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون} فدين الله تعالى منصور بنا أو بغيرنا، بهذا الجيل أو بالجيل الذي يليه، لكن حتى لو فرضنا أن نصر الدين سيكون بالجيل القادم، فهذا الجيل الذي نحن جزء منه الآن يجب أن يشتغل بإعداد المقدمات، وتهيئة الأسباب والجهاد لتحقيق النصر الإسلامي على كافة المستويات، الإعلامية والدعوية والتعليمية وفي كل مجالات الحياة، بدون استثناء، والأمر بعد ذلك لله ينصر من يشاء.

إذاً لا نستطيع أن نقول مثلاً: إن مجرد الابتلاء في حد ذاته دليل على صواب دعوة، أو خطئها، لأن الدعوات الصادقة الجادة دعوات الأنبياء يبتلى أصحابها، والدعوات الكاذبة - أيضاً- قد يحدث لها الابتلاء، والدعوات الصادقة الجادة قد تمكن وتنصر، وهذا كله تربطه سنن ونواميس إلهية، والكلام فيها يطول وربما لا يكون من المناسب خاصة مع ضيق الوقت الاسترسال فيها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015