Q نجد من إخواننا المسلمين من يخالف بعض أحكام الشريعة، التي قام الدليل على ثبوتها، بناءً على أن هذه أحكام لا تتمشى مع العقل والذوق، وكأنهم يجعلون العقل حاكماً على النص، فما نصيحتكم لهؤلاء؟ وما المجالات التي يعمل فيها العقل، ويجب ألا يتخطاها؟
صلى الله عليه وسلم ينبغي أن نعلم أولاً: أنه لا يمكن أن يوجد تعارض حقيقي بين العقل والنص، هذا لا يمكن أن يوجد بحال من الأحوال، لأن منزل النص هو خالق العقل سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:3] فليس بين ما خلق الله تعالى وهو العقل، وكذلك الكون، وبين ما أنزل الله تعالى وهو (الوحي) ليس بينهما أي تضارب أو تعارض، بل هما يسيران على سنن الوثاق والوئام دائماً، لكن هذه القضية المجملة يجب أن يؤمن بها المؤمن، ولو لم يستطع أن يطبق كل تفاصيلها؛ لأن الإنسان قد يكون عقله -مثلاً- ناقصاً، فلا يستطيع أن يدرك مغزى النص، وقد يكون فهمه للشرع ناقصاً، فلا يستطيع أن يوفق بينه وبين العقل في مسألة معينة، إنما عليه أن يؤمن بهذه القاعدة الكلية إيماناً مطلقاً، لا يقبل الشك، ثم يجتهد في تطبيقها على تفاصيل الأحكام والأحوال والمسائل، ولذلك من الخطأ الكبير اشتعال خصومة بين العقل وبين النقل الشرعي، ومن الخطأ أن يتحدث المسلمون عن فلان أنه مثلاً فلان العقلاني، وكأن العقل منقصة ينبغي التبرأ منها، أو إن فلاناً نصوصي، وكأن ذلك تنقص له، يعني: أنه يهتم بالنصوص ويلغي دور العقل.
والأصل أن العقل والنص يسيران جنباً إلى جنب، فالنص -مثلاً- لا يمكن أن يفهم إلا بالعقل، وكلما كان الإنسان أكبر وأوسع عقلاً كان أقدر على فهم النصوص، وأقدر على استيعابها وأقدر على إدراك مغازيها، وأقدر على التوفيق بينها.
إذاً فالعقل هو الذي يفهم به النص، ويدرك به وتستنبط به الأحكام من مصادرها وأصولها، وكذلك العقل له مجال رحب بتطبيق النص على واقع الحياة، وتنزيل الأحكام الشرعية على مواضعها، وله دور كبير في استكشاف آفاق المجهول في الحياة، وفي معرفة السنن والنواميس، وفي معرفة النتائج من مقدماتها إلى غير ذلك من المجالات الواسعة.
أما المجالات التعبدية، والمجالات الاعتقادية المحضة، فهذه دور العقل أن يفهمها وأن يحتج لها، وليس دوره أن يشطب عليها أو يعترض أو يردها أو ينكرها، ولو أننا أفضينا بالعقل إلى هذا لكررنا الأخطاء التي وقع فيها بعض المنتسبين إلى المذاهب الإسلامية، في فترة مضت، حينما أنهكوا العقل في التعرف على أسماء الله وصفاته، من حيث التكييف ومن حيث الإثبات والنفي إلى غير ذلك، فأضاعوا جهودهم في غير طائل، بل أضاعوا جهودهم في أمر عاد على المسلمين بشيء كبير من الضرر، انهماك في قضايا غيبية لا مجال للعقل في إدراكها، وانشغال العقل عن مجالاته الطبيعية في أمور الحياة التي يمكن أن يثمر فيها، أو حتى في معرفة الجوانب الشرعية التي تعرف بالعقل فعلاً، كما أكدت نماذج من ذلك.
الجانب الثاني: نقول فيما يتعلق بالنصوص الشرعية: وجود من قد يجهل نصاً، ليس غريباً في هذا العصر أن يوجد من تخفى عليه بعض الأحكام أو كثيراً من الأحكام، فعلينا أن نحرص قدر المستطاع على الصبر على من يكون هذا شأنه، وأن لا نواجه هؤلاء بكثير من التسخط والانزعاج؛ لأن هذا الزمان (زمان غربة الدين) فالجاهل فيه ليس غريباً، فالغريب فيه أن يوجد العلم، خاصة في المناطق البعيدة والنائية والبلاد التي طال عهد المسلمين فيها بالجهل، وبَعُدَ عهدهم بالنص والعلم والشرع.
ولاشك أن هذا هو زمان الغربة، وأننا ينبغي أن نصبر على المسلمين، وألا نستغرب أن يجهلوا بعض أحكام الدين، فلا يدعونا هذا -مثلاً- إلى رميهم، أو إلى التسخط عليهم، أو اتهامهم، بل ينبغي أن نحلم عليهم وندرك أن هذا جزء من مدلول الحديث النبوي، الذي يقول فيه النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: وهو حديث صححه جماعة من أهل العلم {إنكم في زمان من ترك عشر ما أمر به هلك، وسيأتي على الناس زمان من عمل بعشر ما أمر به نجا} وعندما نقرأ حديث الغربة مثلاً، نعرف أن جزءاً من الحكمة في الإخبار بهذا الخبر، حينما قال النبي عليه الصلاة والسلام {وسيعود غريباً كما بدأ} أنه إنما أخبر بذلك حتى يكون الداعي، والعالم، وطالب العلم، والمرشد والمعلم صبوراً على الناس، لا ينفعل أو ينزعج إذا رأى منهم -مثلاً- مخالفة له، أو إعراضاً أو عدم قبول، أو ما أشبه ذلك، ويفسر ذلك بأن هذا زمان الغربة.
ولا شك أن من كان عنده علم أوفهم أو دين، أو دعوة في مثل هذه الأوقات، (أوقات الغربة) ينبغي أن يكون عنده مع ذلك طول نفس وسعة صدر، وصبر على الناس، وقدرة على تحمل مخالفتهم له، حتى يستطيع أن يحقق ما يصبو إليه من التعليم دون أن يكون سبباً في مزيد من كثرة الاختلافات بين المسلمين، أو كثرة القيل والقال، أو تباعد النفوس، أو اختلاف القلوب أو ما أشبه ذلك من الآثار والأضرار التي قد تكون عوائق أمام دعوته، بحيث ينظر الناس إليه على أنه سبب في تفريق الكلمة، يظنون هذا لعدم علمهم، بالاختلاف بين المسلمين أو ما أشبه ذلك.
فعلى الداعي أن يتذرع بمزيد من الحلم والصبر وطول البال، والأناة مع الناس، وكما مدح النبي صلى الله عليه وسلم أشج عبد القيس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى: الحلم والأناة} فنحن أحوج ما نكون، خاصة الذين يحملون الحق، ويحملون المنهج الصحيح، أحوج ما يكون أن يقدموه في قالب من الود والحلم والأناة والصبر، ومغفرة أخطاء الناس، كما قال الله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43] أما كوني كلما وجدت من الناس تلوماً أو تباطؤاً أو مخالفة لي، أو عدم قبول ما عندي مما أعتقد أنه حق، أشهرت فيهم سلاح النقد والتجريح وما أشبه ذلك من التعيير، وتكلمت عنهم بكثير من التبرم، فإن هذا يدل على نقص عندي، وهو سبب من أسباب عدم قبول الدعوة، أسأل الله تعالى للجميع التوفيق.