توجيهات قرآنية

يقول الله عز وجل: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] قد يكون هذا الأجل الذي ضربه الله تعالى للأمم -كما يضرب للأفراد آجالاً- انقراضاً وزوالاً واستئصالاً بالكلية، وقد يكون انكماشاً وضعفاً وتراجعاً يحيط بأمةٍ من الأمم أو شعبٍ من الشعوب، والله تعالى كما يقول نبيه عليه الصلاة والسلام: (وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مسمى) فللأمم آجال، كما للأفراد، ولها نهوض، ولها هبوط، ولها شباب، ولها هرم، ولكن هذه الأمة المحمدية تتميز عن الأمم الأخرى بأن أجلها لا ينتهي إلا بقيام الساعة، فهي أمةٌ تمرض ولكنها لا تموت.

ثانياً: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140-141] .

أيام الدنيا دول لا يدوم فيها حزن ولا سرور، ولا عز ولا ذل، ولا غنى ولا فقر، وإنما الدهر بالإنسان دوار، وكما يقول بعض الشعراء من أولاد الخلفاء: ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت لنا رغبةً أو رهبة عظماؤها فلما انقضت أيامنا عصفت بنا شدائد أيامٍ قليل رخاؤها وصرنا نلاقي النائبات بأوجه الرقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت علينا الليالي لم يدعنا حياؤها يقول الأمريكيون: إن هذه نهاية التاريخ كما سطر فوكوياما في كتابه المشهور ونظريته الذائعة، ولعلنا نقول: بل هو تاريخ النهاية.

والله سبحانه وتعالى يقول في محكم تنزيله عن الظالمين المجرمين أهل الغدر والفجر والكفر: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم:44] كنت أقرأ هذه الآية كثيراً وأتعجب! وأقول: سبحان الله منزل القرآن! كل البشر يعرفون أن لهم نهاية، وأن لهم أجلاً يموتون فيه، فمن هؤلاء الذين أقسموا ما لهم من زوال؟ حتى رأينا بأعيننا هؤلاء القوم الذين غرتهم قوتهم، وغرتهم غطرستهم، وغرهم أمرهم من ربهم تبارك وتعالى، فصاروا يتكلمون عن أن حضارتهم هي نهاية التاريخ، وأن بقاءهم سوف يكون أبدياً أزلياً سرمدياً، فأقسموا ما لهم من زوال، وسكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم.

هذه المداولة المذكورة في كتاب الله عز وجل: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] هي نتيجة الاستفادة من السنن الربانية، فهؤلاء تذرعوا بالسنن، واكتشفوا واخترعوا وتعلموا وجربوا واتحدوا وتعاونوا حتى وصلوا إلى هذا المستوى من القوة الاقتصادية والتقنية والعسكرية التي بها استطاعوا أن يستفردوا في هذه الفترة بحكم العالم تقريباً، فصار العالم أحادي القطب تديره أمريكا وفق مزاجها ونظرها.

انتصارهم -أيها الأخ الكريم! - ليس انتصاراً عسكرياً فحسب، نعم.

أنا مثلك تماماً حينما أرى خوذة هذا الجندي المتغطرس الأجنبي الغريب في هيئته وسحنته وبزته وقيمه وأخلاقه عن بلادنا وعن تاريخنا وعن أرضنا أرض المجد وأرض التاريخ يأتي من بلدٍ غريب منبت الجذور، ثم يظهر قوته ويضع علمه -أنا مثلك أشعر بالغيظ وأشعر بالمقت، لكنني أدري أن هذا النصر الذي يقتطفه الآن إنما هو نتاج مجموعةٍ من التفوقات التي حصلت عليها إدارته في غيبةٍ وغفلة من الأطراف الأخرى، فهم استفادوا من هذه السنن الربانية، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه، فانتصارهم ليس انتصاراً عسكرياً فحسب، بل هو انتصارٌ حياتيٌ، علمي، تقنيٌ، اقتصاديٌ، إداريٌ، سياسي، وهو جزء من سنة الابتلاء التي تقابل بالصبر وتقابل بالمدافعة.

ولهذا؛ الآية الثالثة قوله عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] فإن ما يصنعه الله سبحانه وتعالى في أرضه وفي عباده من القضاء والقدر لا يمكن أن يكون شراً محضاً، ولا بد أن يكون فيه جوانب من الخير ومن الحكمة، وإن كانت هذه الجوانب قد تخفى على العباد، خصوصاً في أوقات الأزمات، وحينما يستحر الحزن والقلق والكآبة والتوتر في قلوب الناس، لكن المؤمن يظل راضياً مدركاً أن وراء الأمر من حكمة الله تعالى وحسن تدبيره ما يحمد الناس له العواقب.

رابعاً: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] نريد أن نلوم أمريكا، وكم يسرنا ونطرب حينما نسمع من المحللين والكتبة والإعلاميين والخطباء وغيرهم من يتكلم في هذه الدولة الظالمة، وأعتقد أن كل ما يقال عنها فهو جزء قليلٌ مما تستحق، ولكن علينا ألا نغفل أيضاً عن أن هذه الإدارة المتغطرسة الظالمة التي لا يمكن أن يخفي قبحها شيء لم تكن لتبلغ فينا ما بلغت لولا أننا أتينا من قبل أنفسنا.

وهاهو ربنا تبارك وتعالى يقول للمبشرين بالجنة وللسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] .

فينبغي علينا أن نقول هذا لأنفسنا الآن والجراح ساخنة، والدماء نازفة، والآلام حية، قل هو من عند أنفسنا.

علينا أن نعتبر هذه فرصة لنصحح فيها أوضاعنا، ونصلح فيها أحوالنا، ونستدرك ونعود إلى ربنا تبارك وتعالى عودةً صادقة، توبةً على مستوى الفرد والجماعة والأسرة والمجتمع والدولة والأمة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015