أخي في الله: من الأمور التي تعينك على تحقيق العبودية لربك أن تتذكر غمرات الموت، قال سليمان بن عبد الملك وقد حج، فلما حج قال: هل بقي أحد من أصحاب رسول الله؟ قالوا: لا.
قال: هل بقي أحد من التابعين الذين رأوا أصحاب رسول الله؟ قالوا: نعم.
قال: عليَّ بواحد منهم، فجاءوا بـ أبي حازم، فلما دخل عليه وجلس بجواره قال له: يا أبا حازم: مالنا نكره الموت ونحب الحياة؟ وهذه صفاتنا كلنا، كل واحد لا يريد ذكر الموت، وإذا ذكر الموت في محاضرة يخرج الناس ويقولوا: والله تعبنا كل الكلام عن الموت، يا أخي! هذا موتنا قبل حياتنا، لا.
مت الآن قبل أن تموت ولا تلقى عملاً، اذكر الموت عند من يخوفك حتى تأمن أحسن من الذي يؤمنك حتى تخاف، نحن الآن نخوف لكي نخاف فإذا جاء الموت أمنا، نقول: الحمد لله أننا ما فوتناها، لكن يقول لك شخص: لا.
الآن الموت اتركنا منه، نحن الآن نأكل ونشرب، فإذا جاء الموت وأنت خائف تقول: رب ارجعون {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} [المؤمنون:99 - 100] إذا جاء الموت قال: دعوني أعمل صالحاً، قال الله: {كَلَّا} [المؤمنون:100] أداة زجر وردع وتوبيخ: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
فيقول سليمان لـ أبي حازم: مالنا نكره الموت؟ أنا أكره الموت، وأنت تكره الموت، وكل واحد لا يريد الموت، فأجاب إجابة نعرفها نحن، قال: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم، والإنسان بطبيعة الحال يكره أن ينتقل من العمار إلى الخراب.
الآن أنت ساكن في (فيلا) ثم جاء أمر بإسكانك في كوخ.
أترضى؟ معك غرفة النوم أترضى أن ترقد على حصير؟! لديك الحمام الإفرنجي والوسيع والدش أترضى أن تقعد في حفرة مكانك في الطين؟ بدلاً من الفراش اسكن في كوخ؛ مع البعوض والذباب والوساخات والهواء والروائح والماء ليس ببارد بل حار -يعني: ليس على ما تريد- هل من أحد يريد أن يترك (الفيلا) ويذهب إلى الكوخ؟ لا.
لا أحد يرضى، كل واحد يقول: لا والله أريد هنا، لماذا؟ لأنه عمر (الفيلا) ولا يريد الخراب.
يقول أبو حازم: لأنكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة.
كيف عمرنا الدنيا أيها الإخوة؟ ليست عمارة الدنيا بأن تبني ببيتاً، لا، من الشرع أن تبني بيتاً، لكن اعمر البيت بطاعة الله، لا تعص الله في البيت، ومن الشرع أنك تشتري سيارة لكن اعمر السيارة بذكر الله؛ بأن تحملك إلى بيوت الله، وأن تمتطيها إلى حلق العلم ومجالس العلماء، اعمر الدنيا بزوجة صالحة تربيها على دين الله، اعمر الدنيا بأولاد تربيهم على الدين، اعمر الدنيا بفراش وبأكل لكي تستعين به على طاعة الله.
لكن عمارة الدنيا أن نعمرها بمعصية الله: نشتري عمارة ونجعل فيها الأفلام والمسلسلات والأغاني ونركب (الدش) فوق البيت، ونأكل ونشرب ونضيع الصلاة ونضيع أوامر الله، ونشتري سيارة ونذهب بها إلى المعاصي وإلى الرحلات وإلى التبرج والسفور، والزوجة نأمرها بالمعاصي، وأولاد نتركهم على المعاصي، هكذا عمرنا الدنيا وخربنا الآخرة! صلاة لا يوجد زكاة لا يوجد صيام لا يوجد ذكر لا يوجد قرآن لا يوجد دعوة لا يوجد، بعد ذلك: معاص تقع من العين كالنظر إلى الأفلام والحرام والنساء، ومعاصٍ تقع من الأذن بسماع الغناء، ومعاصٍ تقع من اللسان باللعن والشتم والغيبة والنميمة والكذب والفجور والزور، ومعاصٍ من الفرج بالزنا واللواط، ومعاصٍ من البطن بأكل الحرام، هذا عمران الدنيا وخراب الآخرة! هل هناك أحد يريد أن ينتقل من العمار إلى الخراب؟ لا أحد.
قال أبو حازم لـ سليمان بن عبد الملك: لأنكم أعمرتم دنياكم وخربتم أخراكم، فأنتم تكرهون الانتقال من العمران إلى الخراب.
قال: يا أبا حازم! كيف القدوم على الله إذا متنا غداً؟ قال: يا أمير المؤمنين! أما العبد المؤمن فكالغائب يعود إلى أهله، وأما العبد الفاجر فكالعبد الشارد على سيده يقبض عليه مولاه.
الآن شخص غائب عن أهله في غربة، غاب ورجع كيف يكون وضعه في أول ليلة عندما يدخل على أولاده وعلى أمه وأبيه وزوجته وعلى جماعته فرحين مسرورين؟ هو في غاية الفرح والسرور؛ لأنه رجع لأهله، لكن المملوك الذي شرد من سيده وتمرد عليه، ثم قبض عليه أين يرقده تلك الليلة؟ يضع القيد في رجله ويدعه مع الحمار في الإسطبل لماذا؟ لأنه عبد منحوس هرب، لا بد أن نحبسه مع الحمار لكيلا يهرب مرة ثانية.
وكذلك -ولله المثل الأعلى- العبد المحسن يعود إلى مولاه ويرجع إلى أهله في الجنة، والعبد الشارد من الله، الهارب من طاعة الله، المحارب لأوامر الله، المعتدي على حرمات الله، عبد سيئ هارب يقبض عليه سيده أين يرقده؟ في النار.
قال: أما العبد المؤمن فكالغائب يعود إلى أهله، وأما العبد السيئ فكالآبق يقبض عليه مولاه.