يا أيها الإخوة في الله! ما هو المخرج من ورطة هذه الحياة؟ من خلق فقد ورط، وليس له من مخرج إلا مخرج واحد، المال ليس مخرجاً، فقد رأينا أرباب الأموال يوم أن ماتوا كيف سلبوا أموالهم، لم تغن عنهم أموالهم شيئاً، قارون جمع الأموال، قال الله عنه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:81] ما نفعته أمواله، وليس المنصب والجاه والرتبة والمكانة والوظيفة بديل ولا مخرج، فقد رأينا أصحاب المناصب والرتب كيف يموتون ويخلسون من مناصبهم، ويودعون في الحفر المظلمات، وليست الزوجات ولا الأولاد ولا البنات ولا الريالات؛ ليست كل هذه مخارج من ورطة الحياة، المخرج من ورطة الحياة الإيمان بالله والعمل الصالح، يقول عز وجل: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37].
أموال وأولاد لا تنفع كلها، حتى الكفن الذي تخرج به من الدنيا لا ينفعك في الآخرة، هل ينفع الكفن؟ لو ينتفع الإنسان بالكفن لتكفن الأثرياء في أكفان من ذهب، لكن الكفن يواري عورتك إلى أن تدس في القبر، ثم تحل الأربطة ويتحلل في التراب ولا تنتفع به، سواء جديداً أو قديماً، ولهذا يقال: إن أبا بكر الصديق لما جيء له بكفنين نظيفين جديدين قال: [أعطوها الأحياء وهاتو لي كفناً بالياً، قالوا: لم يرحمك الله؟ قال: إن كنت على خير فعند الله أفضل منه، وإن كنت على شر فما يغني هذا الجديد شيئاً].
تكفنت في جديد أو قديم لا ينفع شيئاً، ما الذي ينفعك؟ {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [سبأ:37] فقط.
هل وطنا أنفسنا على هذا المخرج أيها الإخوة؟ هل نحن مرتبون أوضاع حياتنا على أن نعيش لهذا الغرض؟ هذه هي الوظيفة الرئيسية لنا في هذه الحياة، وقد وضحها الله في محكم التنزيل بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] هذا هو الغرض من خلقك ووجودك على ظهر هذه الحياة؛ أن تعبد الله، أن تؤمن بالله، أن تعمل الصالحات، وما تعمله من وظائف أخرى كلها مسخرة لخدمة هذا الغرض، فتأكل لتعبد الله، وتشرب لتعبد الله، وتتزوج لتعبد الله، وتنجب الولد ليعبد الله، وتتوظف لتعبد الله، وتنام لتعبد الله، وتستيقظ لتعبد الله، كل حياتك تسخرها من أجل الغرض الرئيسي الذي من أجله خلقك الله عز وجل.
هذا هو الهدف، لماذا؟ لأنه هو المخرج لك، ليس المخرج لك غير هذا أبداً بأي حال من الأحوال، ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأمة، وكانت تعيش في دياجير الجهل والشرك والظلم والبعد عن الله عز وجل، وأخبر الناس أنه جاء لإنقاذهم وقال لهم: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، عرفوا معنى هذه الكلمة، وعرفوا أن مضمون الكلمة يشمل ويغطي جميع حياتهم، ولم يفهموها كلمة مجردة، أو كلمة عارية عن المعنى، لا.
بل فهموها على أنها كلمة تشمل حياتهم كلها وتغطي مسار حياتهم كله، في الليل والنهار، في السر والجهار، في البيت والمكتب والمزرعة وفي كل مكان.
لا إله إلا الله تحكم العين فلا تنظر إلى ما حرم الله.
لا إله إلا الله تحكم اللسان فلا يتكلم به فيما حرم الله.
لا إله إلا الله تحكم الأذن فلا تسمع ما حرم الله، وتحكم الفرج فلا يطأ ما حرم الله، وتحكم البطن فلا ينزل فيه ما حرم الله، وتحكم اليد فلا تبطش فيما حرم الله، وتحكم الرجل فلا تسير حرم الله.
لا إله إلا الله؛ لا مطاع إلا الله، ولا معبود إلا الله، ولا مرجو إلا الله، ولكن لما قالوا هذه الكلمة قدموا البراهين عليها، فأُخرجوا من ديارهم ولا أحد يتصور أنه يخرج من بيته منهم.
حتى النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من بعد أن أوحي إليه ودخل على خديجة رضي الله عنها وأخبرها بالخبر وقال: (زملوني).
يعني: غطيني، كان في حالة نفسية صعبة، إذ نزل عليه الوحي بأمر لم يكن يتوقع -فكان في حالة نفسية- فقال لها: ما حدث له فقالت: والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر والله لا يخزيك الله] ثم ذهبت إلى ورقة بن نوفل ابن عمها وأخبرته، فدعا النبي وقال: (إنه الناموس الذي نزل على موسى وعيسى -يعني: إنه الوحي الذي ينزل على الأنبياء- ليتني كنت فيها جذعاً أنصرك نصراً مؤزراً إذ يخرجك قومك، قال: أومخرجي قومي؟!! -أمعقول يخرجونه وهم يحبونه وهو الأمين عندهم- قال: إنه ما جاء نبي قومه بمثل ما تأتي به إلا أخرجوه قومه وآذوه، فقال: الله المستعان!).
فهم الصحابة هذا الفهم فقدموا التضحيات في سبيل هذا الدين، أُخرجوا من ديارهم وأموالهم، صهيب الرومي رضي الله عنه لما خرج من مكة مهاجراً وكانوا قد أقاموا حصاراً حول الفقراء من المؤمنين، لكن الأغنياء والأقوياء خرجوا عنوة مثل عمر خرج فقال: [الذي يريد أمه أن تبكي عليه فليلحقني في الوادي] وخرج في نصف النهار، لكن المساكين لا يقدرون، فأقاموا حراسة عليهم، فخرج يوماً صهيب رضي الله عنه إلى الخلاء ثم تأخر قليلاً حتى غفلوا عنه، ثم فر بدينه، فلما افتقدوه ركبوا الخيل وطاردوه ولحقوه على أطراف مكة، قالوا: جئتنا صعلوكاً والآن تريد أن تذهب، فخرج على دابة وأخرج قوسه ثم قال: [والله ما أضعها إلا في كبد واحد منكم، دعوني أفر بديني] قالوا: تفر بدينك لكن الأموال لا تأخذ منها شيئاً، قال: [أرأيتم إن دللتكم على مالي تدعوني؟] قالوا: نعم.
فأعطاهم الذي معه ودلهم على الذي في مكة ثم خرج بنفسه، ونزل فيه قول الله عز وجل: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:207].
ولما قدم إلى المدينة رآه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى) عرف كيف يبيع نفسه، باعها لله، فربح الدنيا والآخرة.
من الناس الآن من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الشيطان، يشتري المجلة بعشرة ريالات: مجلة عارية ساخرة قذرة، ويشتري الفيلم بخمسين ريالاً ليفسد نفسه وزوجته وأولاده، ويشتري الدخان، ويشتري المعاصي والعياذ بالله، يحجز بآلاف الريالات ويأخذ أسرته بالكامل ليخرج إلى بلاد غير مسلمة من أجل ألا يسمع فيها الله أكبر، ولا يرى فيها بيوت الله، ولا يرى فيها داعي الله، لماذا؟ قلبه منكوس، يشري نفسه ابتغاء مرضاة الشيطان والعياذ بالله، أولئك الصحابة فهموا هذا الدين هذا الفهم، وقدموا التضحيات وعاشوا للإسلام وأُخرجوا وأوذوا، وكان منهم بلال الحبشي رضي الله عنه الذي كان يوضع على رمضاء مكة في الحر الشديد -وأرض مكة إذا كانت حارة لا يتحمل الإنسان أن يمشي بقدمه عليها- وهو عار من ثيابه، ثم يمرغ على الرمضاء التي مثل الجمر الأحمر، ثم توضع الحجارة المحماة على صدره ويسحب ويقلب عليها وهو يقول: أحد أحد، أحد أحد، أحد أحد.
وآل ياسر يعذبون بالنار ويكوون بالجراح ويأتي أبو جهل ويطعن سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر رضي الله عنها أول شهيدة في الإسلام، يطعنها بالرمح في بطنها ويخرج من سوءتها ميتة، ويمر عليها النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).
ويخرجون إلى الحبشة ويطردون، ويخرجون مرة ثانية إلى الحبشة ويرجعون، ويخرجون إلى المدينة ويحبسون قبلها في الشعب ثلاث سنوات حتى أكلوا ورق الشجر، وفي بيعة العقبة لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أهل المدينة -الأنصار- على البيعة قام أسعد بن زرارة وقال: (يا قوم! أتدرون على ما تبايعون؟ قالوا: بايعنا، قال: تبايعون على أن ترميكم العرب بقوس واحد، بايعتم على قطع الرقاب وعلى الخروج من الأموال وعلى ترك الأولاد والأهل فإما أن تصدقوا ولكم الجنة، وإما ألا تبايعوا ولكم عند الله عذر، فقام عبد الله بن رواحة وقال: يا رسول الله! مالنا إن صدقنا؟ -إن وفينا في هذه البيعة مالنا؟ - فقال عليه الصلاة والسلام: لكم الجنة).
ما عند الرسول صلى الله عليه وسلم وظائف، ولا عنده عمارات ولا سيارات ولا أراضي، قال: (لكم الجنة).
فقال عبد الله بن رواحة: [لا نقيل ولا نستقيل].
وفعلاً -رضي الله عنهم وأرضاهم- أتموا البيعة، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة استقبلوه، وتكالبت عليهم قوى الأرض وحوربوا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في معركة بدر متخوف من موقف الأنصار، ولما قال: (أيها الناس! ما تقولون؟ قال سعد بن عبادة: يا رسول الله! كأنك تعنينا؟ قال: نعم.
قال: سر بنا يا رسول الله حيث شئت، حارب بنا من حاربت وسالم بنا من سالمت، والله لو خضت بنا هذا البحر ما تخلف منا رجل واحد، لا نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا كما قال قوم موسى لموسى، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون).
هكذا فهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
عبد الله بن أنيس رضي الله عنه صحابي جليل لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم أن خالد بن سفيان الهذلي -رجل شرس من أشرس العرب قوي الجثة، كبير الرأس، شجاع من أشجع الناس- جمع حوله مجموعة من أشاوس القوم في الجزيرة العربية، وأعد لهم معسكراً في عرفات بجانب مكة، ودربهم على أعلى تدريب من أجل اقتحام المدينة وقتل النبي صلى الله ع