من أين يبدأ المسلم في إصلاح نفسه أيها الإخوة في الله؟ أولاً: لا خيار لك في هذا الطريق، لا بد من طريق الإيمان.
ثانياً: لا مجال لك في تأخير التوبة؛ لأن التأخير مجازفة، والمجازفة خاسرة، فلا بد من التوبة من الآن؛ لأنك لا تعلم متى تموت، لو أننا نعلم متى نموت لكنا برمجنا الحياة بحيث إذا كان قبل الموت بيومين أو ثلاثة ضبطنا الأمور وتبنا، لكن من منا يضمن أنه يعيش هذه الليلة؟ لا ندري والله، والله يركبون السيارات ولا ينزلون منها، ويلبسون الثياب ولا يخلعونها، وينامون على الفرش ولا يستيقظون منها، ويركبون الطائرات ولا ينزلون منها، كثر الموت، والموت آت لكل منا، والذي لا يموت اليوم يموت غداً والذي لا يموت غداً يموت بعده، فأنت لا خيار لك في أن تتوب الآن.
ثالثاً: تستشعر وتعرف وتفهم أن هذا الدين تضحية، هذا الدين دين امتحان وابتلاء، يقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] ويقول الله عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف:7] الله خلقنا للابتلاء، والابتلاء صوره وأشكاله كثيرة من ضمن أنواع الابتلاء: الابتلاء بالتكاليف الشرعية، توحيد وعقيدة صافية خالية من الغش ومن الخداع ومن البدعة ومن الضلال ومن الشرك، وبعدها عبادة: صلاة صيام زكاة حج عمرة أمر بمعروف نهي عن منكر حب في الله بغض في الله قراءة لكتيب صلة للأرحام إحسان إلى الناس فعل الخيرات في كل مجال، هذه ابتلاءات وهذه الأعمال فيها مشقة وفيها كلفة، لكن كلفتها تنظيمية من أجل تنظيم حياتك -أيها المسلم! - عند الله عز وجل.
وابتلاك الله بشيء آخر وهو ترك المعاصي، فترك المعاصي نوع من الابتلاء؛ لأن المعاصي محببة إلى القلوب، شهوات مزينة وملمعة، زنا أغاني نوم عن الصلوات أكل ربا شرب خمور، هذه شهوات، والله ابتلانا بتحريمها، لماذا؟ ابتلاء، (ليعلم الله من يخافه ورسله بالغيب) وليعلم من يقف عند أوامره وينتهي عن نواهيه، حتى يكون أهلاً لدخول الجنة، ولهذا جاء في الحديث في الصحيحين قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره) فإذا تجاوزت المكاره وصبرت دخلت الجنة، وإذا اتقيت الشبهات والشهوات دخلت الجنة، أما إذا انهزمت أمام المكاره وضعفت، وانهزمت أمام الشهوات ووقعت، وقعت في النار والعياذ بالله.
فلا بد من توطين النفس على أن هذا الدين ابتلاء، ابتلاء بالأوامر وابتلاء بالنواهي، وابتلاء في الأموال، وابتلاء في الأعراض، وابتلاء في الأنفس، وابتلاء في كل شيء، يقول الله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].
والله يؤكدها بتأكيدات كثيرة: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) كم فيها من مؤكدات؟ بشيء من الخوف والجوع هذه كلها ابتلاءات لماذا؟ تمحيص من أجل أن يقول المؤمن: إنا لله، إذا ذهبت نفسي في سبيل الله فالنفس من الله، إذا ذهب مالي في سبيل الله فالمال مال الله، إذا مات ولدي فالولد من الله.
أم سليم لما مرض ولدها -رضي الله عنها وأرضاها- وكان محبوباً عند أمه وأبيه، ولما مرض مات ودخل أبو سليم قال: ما صنع الغلام؟ قالت: [هو أهدأ ما يكون -وصدقت؛ لأنه قد مات ولم يعد يتحرك- وغطته بغطاء ثم ذهبت وتجملت وتعطرت، وجاءت إليه وعرضت نفسها عليه حتى واقعها، فلما انتهى قالت له: أرأيت لو أن قوماً لديهم عارية لقوم آخرين، فجاء أهل العارية وطلبوها أيرجعونها أم يرفضون؟ قال: بل يردونها، قالت: احتسب ولدك عند الله عز وجل، إنه عارية قد أخذه الله، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون]، ثم لما كان الصباح ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولما رآه ضحك وقال: (بارك الله لكما في ليلتكما).
فرزقوا في تلك الليلة بولد ورزق الولد بتسعة أولاد كلهم حفظوا القرآن؛ لأنها امرأة صالحة، آمنت بالله، عرفت أن الموت بيد الله، الله هو الذي أخذ الولد وهو الذي يأخذ البنت وهو الذي يأخذ الأب، مؤمنين بالله عز وجل.
فيا إخوتي في الله: لا بد أن نفهم هذا المفهوم، أن الإيمان بالله كلفة وأنه ابتلاء وامتحان، وأن نوطن أنفسنا على أن نخضع لأوامر الله، وعلى أن ننزجر عن نواهي الله، وبعد ذلك نكون قابلين لكل ما جاء من الله عز وجل، إنا لله وإنا إليه راجعون.
رابعاً: يبدأ الإنسان بنفسه، فيعرض عليها أوامر الله وينفذها بسرعة، عرفت أن الصلاة واجبة وأنها لا بد أن تكون في المسجد من الآن تلتزم وتقول: والله لا أصلي إلا في المسجد، من يمنعك إلا الشيطان، لا تطع الشيطان، عرفت أن الصيام واجب فصم، عرفت أن الزكاة واجبة فزك، عرفت أن بر الوالدين واجب فبرهما، أوامر الله نفذها كاملة، تأتي إلى النواهي فتنتهي عن كل ما نهى الله عنه، والنواهي معروفة، وتدخل النواهي من سبعة أبواب: من باب العين ومعصيتها النظر، ومن باب الأذن ومعصيتها سماع الغناء والكلام الساقط، ومن باب اللسان ومعصيته اللعن والسب والشتم والغيبة والنميمة والكذب والفجور والأيمان الفاجرة والعياذ بالله، ومن باب الفرج ومعصيته الزنا واللواط، ومن باب البطن ومعصيته أكل الحرام من ربا أو رشوة أو من غش أو من دخان، أو مخدرات أو خمور أو أي شيء خبيث، ومن باب الرجل ومعصيتها أن تمشي بها إلى ما حرم الله، ومن باب اليد ومعصيتها أن تمدها إلى معصية الله عز وجل، وبعد أن وقفت على ذلك، وأقمت الإسلام في نفسك، وبدأت البداية الصحيحة من نفسك، تنتقل بعدها إلى الأسرة، وتعقد حلقة علم في بيتك، من تتصور أنه يكفيك أمك وأبوك أخواتك وإخوانك وزوجتك وأولادك، تريد الجماعة يدخلون بيتك يعلمونهم؟!! يخبرني أحدهم أن زوجته لها عنده خمس عشرة سنة ويوم أن سألها يوماً من الأيام بعد خمس عشرة سنة أن تقرأ الفاتحة يقول: والله ما استطاعت أن تقرأها، يقول: فخجلت من نفسي أن زوجتي معي خمس عشرة سنة وهي لا تستطيع أن تقرأ الفاتحة، فلما عاتبتها قلت: لماذا لم تتعلمي؟ قالت: لا أحد يعلمني، وخشيت أني أطلب من ابنتي أن تعلمني فتضحك عليّ، أو أطلب من ولدي أن يعلمني فيضحك عليّ، أو أطلب منك أنت أن تعلمني فتضحك عليّ، قال الزوج: أنت أمية لا تقرئين حتى الفاتحة؟ يقول: فأدركت أنني أنا المقصر يقول: فعقدت حلقة في البيت وبدأت أقرأ الفاتحة وهي تقرأ بعدي وكلما أخطأت رديت عليها، وقرأ الولد وقرأت البنت وقرأنا الفاتحة، يقول: مر علينا أكثر من شهرين وأصبح البيت كله يحفظ جزء عمَّ.
فعليك أن تبدأ من الأسرة، في أن نعقد حلقة ليلية في كل بيت، أليس هذا ممكن -أيها الإخوة؟ - إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طلب من الصحابة أن يخرجوا من بيوتهم وأموالهم إلى مكة خرجوا، وعندما أمرهم أن يخرجوا إلى المدينة خرجوا، وعندما أمرهم أن يهاجروا إلى الحبشة هاجروا، نحن الآن نطلب من الناس شيئاً سهلاً لا نأمرهم أن يخرجوا من ديارهم ولا من بيوتهم وأموالهم ولا يتركون وظائفهم، نقول لهم: أدخلوا نور الإيمان في بيوتكم؛ لأن النور إذا دخل ماذا يخرج؟ الظلام، الآن لو أطفأت الكهرباء -ونسأل الله ألا تطفأ هذه الليلة- لو أطفأت الكهرباء ماذا يحصل؟ يظلم المسجد، كيف نخرج الظلام؟ بإيقاد النور، فإذا أشعلنا النور ذهب الظلام.
الآن في البيوت ظلام في الأعين ظلام في الألسن ظلام، والدليل أن العيون تنظر إلى الحرام، لو أن العين فيها نور ما نظرت والله إلى الحرام، ولو أن الآذان فيها نور الله عز وجل ما سمعت الحرام، ولو أن الألسن فيها نور الإيمان ما تكلمت بالحرام، ولو أن الأجسام فيها نور ما نامت عن الصلوات، ولو أن المرأة في قلبها نور ما سمعت الأغاني، ولو أن المرأة في قلبها نور ما كشفت الحجاب وتبرجت؛ لأن الحجاب ليس عادة ولا تقليداً، الحجاب شرع ودين وعقيدة تنبعث من النفس، الحجاب شريعة الله وفريضة في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا قلبها ليس مملوءاً بالإيمان وما عندها نور الإيمان تجدها تتحجب تقليداً، لكن لو وجدت فرصة للخلاص من هذا الحجاب لقذفته إلى غير رجعة، لكن المؤمنة التي عندها نور الإيمان في قلبها تتحجب، والله لو رميتها في البحر ستبقى متحجبة، لماذا؟ لأن القناعة بالحجاب تنبعث من داخل نفسها، فالآن في البيوت ظلام ما في ذلك شك، الولد نائم عن الفريضة؛ لأن في قلبه ظلمة المعاصي، البنت لا تصلي إلا بالمتابعة؛ لأن في قلبها ظلمة، نريد أن نخرج هذه الظلمات من البيوت، كيف نخرجها؟ بإدخال النور، ما هو النور؟ نور القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، أما القرآن فقد سماه الله نوراً في القرآن، قال عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] فهو نور، إذا دخل القرآن في بيتك وعلمت أولادك القرآن وشرحت لهم القرآن ذهب الظلام من قلوبهم، وندخل سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نور بنص القرآن يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب:45 - 46].
فإذا دخل القرآن والسنة في بيوتنا وعقدنا تلك الجلسات الإيمانية ذهب الظلام، ولتكن بعد صلاة العشاء، ويجب أن نبرمج أوقاتن