أيها الإخوة في الله: هذه الأيام المباركة، وهذه الليالي الزاهرة، وهذه الأوقات الفاضلة، لا ينبغي أن تمر دون تدارك ولا استغلال، ينبغي للعبد العاقل أن يتدارك هذه الأوقات بالأعمال الصالحة، وأن يبادر إلى الإيمان وإلى التوبة والإقلاع عن الذنوب والمعاصي قبل انقطاع الآجال، وقبل الرحيل إلى القبور والانتقال، قبل قفل الباب، وطي الكتاب، وانقطاع الأسباب، وهجوم الموت، وحضور الفوت؛ لأن من تذكر القبر وأن مآله إليه ومورده عليه، وأنه لا بد من مجاورة الأموات، والانتقال من القصور والديار والفلل العامرات، إلى حفر ضيقة مظلمات، يكون فيها مقيماً إلى يوم قيام الناس لعالم الخفيات، والوقوف بين يدي الحكم الذي لا يخفى عليه مثاقيل الذرات.
إذا تذكر الإنسان هذا؛ فإنه لا بد له من أن ينظر في خلاصه، وأن يراجع نفسه، وأن يقف وقفات جازمة مع هذه النفس، ليعرف أين هي؟ وما مركزه الإيماني؟ وما مكانته عند الله؟ أين هو من أوامر الله؟ أين هو من نواهي الله؟ ما علاقته بكتاب الله؟ ما صلته ببيوت الله؟ كيف هو في عينه إذا نظرت؟ كيف هو في أذنه وما سمعت؟ كيف هو في لسانه وما نطقت؟ كيف يده وما بطشت؟ كيف رجله وأين سارت؟ كيف بطنه وما أكلت؟ كيف فرجه وأين وفع؟ محاسبة حازمة جادة مع هذه النفس؛ لأنه إن لم يفعل هذا فقد خسر، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
روى أبو نعيم والحاكم أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه شيع جنازة من أهله، ثم أقبل على الناس فوعظهم وذكرهم بالموت، وذكر الدنيا وتنعمهم بها، وما سيصيرون إليه بعد الموت، من ظلمات القبور، وكان من كلامه رحمه الله أنه قال: إذا مررت بالمقابر فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم وانظر إلى تقارب منازلهم، سل غنيهم ما بقي من غناه، وسل فقيرهم ما بقي من فقره، وسل عن اللسان الذي كانوا به يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا بها إلى الحرام ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنعت بها الديدان، محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفت الوجوه، ومحت المحاسن، وأبانت الأعضاء، وأخرجت الأشلاء.
أين حجابهم وكيانهم؟ أين خدمهم وعبيدهم؟ أين جمعهم وكنوزهم؟ والله ما وضعوا لهم في القبر فراشاً، ولا وضعوا معهم هناك مسكاً، ولا غرسوا لهم هناك شجراً، ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في الخلوات، أليسوا في الظلمات، أليس الليل عندهم والنهار سواء؟ أليسوا في مدلهمات ظلماء، قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة والأهل، وأصبحوا ووجوههم بالية، وأجسادهم عن أعناقهم بائنة، وأوصالهم متفرقة، وقد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه صديداً، ودبت دواب الأرض في أجسادهم، وتفرقت أعضاؤهم، ثم لم يلبثوا حتى أصبحت العظام رميماً، قد فارقوا الحدائق والبساتين، وساروا بعد السعة في الضيق، تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرقات أولادهم، وتوزعت القرابات ميراثهم، فمنهم والله الموسع له في قبره، ومنهم من هو في حفرة من حفر النار والعياذ بالله؟ مر علي بن أبي طالب على مقبرة فسلم على القبور وقال: [يا أهل المقابر! أما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، وأما الزوجات فقد تزوجت، هذه أخبارنا فما أخباركم؟ ثم بكى وقال: والله لو تُركوا لقالوا: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]].
يا ساكن القبر غداً ما الذي ضرك من الدنيا؟ هل تعلم أنها تبقى لك أو تبقى لها؟ أين دارك الفيحاء؟ أين قصرك الواسع؟ أين سيارتك الفارهة؟ أين ثمارك اليانعة؟ أين رقاق الثياب؟ أبن الطيب والبخور؟ أين كسوتك في الصيف والشتاء؟ أما والله وقد نزل الأمر فما يدفعه عنك أحد، وخلا الوجه يرشح عرقاً، ويتلمظ عطشاً، ويتقلب في سكرات الموت، جاء الأمر من السماء، وجاء طالب القدر والقضاء، فهيهات هيهات!! يا مغمض الوالد والولد وغاسله! يا مكفن الميت وحامله! يا تاركاً له في القبر وراجعاً عنه! ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى، ومتى ستكون أنت المحمول؟ كم حملت من الأموات؟ ومتى تكون أنت المحمول؟ كم سمعت من الأخبار عن الأموات؟ ومتى ستكون أنت الخبر بالموت؟ كم تركت في القبور من الأموات؟ ومتى ستكون أنت المتروك في القبر ويذهب الناس إلى بيتك؟ لا إله إلا الله أيها الإخوة في الله!! ما أغفلنا عن ذلك المصير، لا حول ولا قوة إلا بالله.
أما والله لو علم الأنام لما خلقوا لما هجعوا وناموا
لقد خلقوا لأمر لو رأته عيون قلوبهم تاهوا وهاموا
ممات ثم قبر ثم حشر وتوبيخ وأهوال عظام
ليوم الحشر قد عملت رجال فصلوا من مخافته وصاموا
ونحن إذا أمرنا أو نهينا كأهل الكهف أيقاظ نيام