الإنسان عندما يُسلم تتكالب عليه الدنيا كلها، ويضايق في رزقه، ويحارب في حياته، ولكن مع كل ذلك يصبر، ويثبت على دين الله عز وجل ولا يبالي ولو مات، ولو قطع قطعة قطعة؛ لأنه وجد الدين الحق.
قابلني أحد المسلمين الجدد -من مسلمي أمريكا - في الحج، قلت له: كم عمرك؟ -وعمره أظن أنه خمس وثلاثون سنة.
قال: عمري ست سنوات.
قلت: كيف ست سنوات؟! عمرك أقل شيء خمسين أو أربعين سنة.
قال: تريد عمري الحقيقي أم عمري الوهمي؟! قلت: بل عمرك الحقيقي.
قال: عمري الحقيقي ست سنوات.
قلت: كيف ذلك؟! قال: أسلمت منذ ست سنوات، فأنا حي منذ ست سنوات، لكن قبل ست سنوات ما كنت حياً، كانت حياتي حياة بهيمية.
ثم قال لي: أنتم إذا جاءكم عجل أو جحش أو أي حيوان هل تسجلون تاريخ ميلاده؟ قلت: لا.
قال: وإذا مات هل تعملون له شهادة وفاة؟ قلت: لا.
قال: حياتنا كانت هكذا، نحن كنا كالبهائم، لا نستحق أن نُسجَل في تاريخ ميلاد أو وفاة؛ لأنه لا حياة لنا، ولكن في ظل الدين والإيمان بالله عز وجل ولدت قبل ست سنوات.
ثم قال: الحمد لله الذي أحياني قبل أن يميتني.
يقول: الحمد لله الذي أحياني حياة الإيمان قبل أن أموت فألقى الله وأنا على غير الإيمان.
فذكرت قول الله عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] وذكرت قول الله عز وجل: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:19 - 22] من هو الأعمى ومن البصير؟ الأعمى هو الكافر، والبصير المؤمن.
من الذي في الظل ومن الذي في الحرور؟ الذي في الظل المؤمن، والذي في الحرور الكافر.
ومن الذي في الظلمات ومن الذي في النور؟ الذي في الظلمات الكافر، والذي في النور المؤمن.
من الحي وهو الميت؟ الحي: هو المؤمن، والميت: هو الكافر، وإن كان الكافر حياً لكنه يعيش حياة الصراصير والكلاب والقردة والخنازير، وهذه ليست الحياة الحقيقية، إنما الحياة الحقيقية هي التي تنبع من استجابتك لله، ولهذا يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24].
ما الذي يحيينا؟ إنه الدين إن ما يحيي الماديين الآن الهواء والغذاء والماء، لكن هذا يحييك ويحيي الحمير والبقر معك، لكن الذي يحييك أنت كإنسان هو الدين والإيمان، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] ثم قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] يَحُولُ بينك وبين قلبك، متى؟ إذا لم تستجب، فإذا استجبت لله عز وجل أصبحت حياً، وإذا لم تستجب حال بينك وبين قلبك.
وتصور من يعيش وبينه وبين قلبه حائل هل يعرف مصالحه أو حياته أو سعادته؟! لا.
هناك موانع بينه وبين قلبه، يعيش في وادٍ وقلبه في وادٍ آخر، عدو نفسه، تصرفاته كلها وبال عليه، يسمع ما يغضب الله فيصب في أذنيه الرصاص المذاب يوم القيامة، ينظر إلى ما حرم الله فتملئ العينات من جمر جهنم، يأكل الربا فيأكل النار -والعياذ بالله- يقع في الزنا فيعذب في النار، يمارس الجرائم وفي نفس الوقت يظن أنه في نعمة وعلى خير، لماذا؟ قال العلماء: لأن الله قد حال بينه وبين قلبه، وإلا لو كان معه قلب ما حدث هذا، ولهذا يقول الله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق:37] وليس المقصود بالقلب هنا هذه العضلة التي تضخ الدم؛ لأن هاذ الجهاز مع الثور مثله عشر مرات تجد أن قلبه يعمل وهو أبلد حيوان، ليس هذا هو المعني، إنما المقصود هو القلب الذي يفقه عن الله، ويعي أوامر الله، ونوَّره الله بالدين، هذا هو القلب، أما العضلة التي في الجسم ما هي إلا عضلة.
بل الآن يعالجون بنقل الأعضاء، إذا مات شخص يأخذون قلبه ويضعونه لمريض آخر، ثم بعد أن يتعافى تسأله: ما اسمك؟ يقول: أنا محمد، وكم عندك من الأولاد؟ قال: أربعة أولاد، كل حياته موجودة رغم أن القلب غير القلب، إذاً هذا ليس هو القلب، هذا اسمه عضلة ضخ الدم، تعارف الناس على أن اسمها قلب، مثل عضلة الكبد أو عضلة الرئة، أو أي عضلة في جسمك، إنما القلب هو الذي تسمع به القرآن، وتفقه به الدين، فالقلب سيد الجوارح (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
وترون الآن في عالم المشاهدة لو أن هناك شخصاً كان ضالاً، منحرفاً، قاطعاً للصلاة، مرتكباً للجرائم، ثم منَّ الله عليه بالهداية وأصلح الله قلبه وهداه، وإذا بالرجل يعزم على إصلاح حاله، أول ما يصلح في هذا الرجل قلبه، هو الذي يصمم من القلب أن يتوب، فَيَصلُحُ مع قلبه جميع جوارحه: وعينه، وأذنه، ويده، وفرجه، ورجله وبطنه وحياته كلها تصلح، لماذا صلحت حياته كلها؟ لأن القلب صلُح، لكن إذا فسد القلب فسدت العين فنظرت إلى الحرام، وفسدت الأذن فسمعت الحرام، وفسدت اللسان فتكلم بالحرام، وفسد الفرج فوقع في الحرام، وفسدت البطن فأكلت الحرام، وفسدت اليد فامتدت إلى الحرام، فتفسد الحياة كلها، لماذا؟ لأن القلب خرب ميت، لكن عندما يُنَوُر بنور الإيمان، يصلح الإنسان في هذه الدنيا والآخرة.
إن أعداء الله عز وجل لما يئسوا من إدخال الناس في الإلحاد أو الديانات الباطلة، نجحوا إلى حد بعيد في تمرير هذه الخدعة على بعض المسلمين، فحالوا بينهم وبين العمل بهذا الدين، إلا أن الأمل في الله كبير، والثقة في هذا الدين عميقة: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] وهو الذي يقول: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [إبراهيم:46 - 52].