أولو العزم من الأنبياء خمسة وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، ويوم القيامة هؤلاء الأنبياء يتخلون عن الشفاعة ويقولون: (إن ربنا اليوم قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله ولم يغضب بعده مثله: اذهبوا إلى غيري) يريد الناس وهم يقفون في عرصات القيامة من يشفع لهم إلى ربهم لفصل القضاء؛ لأنهم وقوف في اليوم العظيم الذي طوله خمسين ألف سنة للانتظار فقط، وقضية سنة، أو عشر، أو عشرين، أو مائة، أو ألف في التعداد الذهني سهلة لكنها في التطبيق صعبة جداً؛ لا يمر اليوم ولا الليلة على الإنسان إلا بصعوبة لولا أن الإنسان يغالط نفسه بكثرة الأعمال والمشاغل والالتزامات، ولو أنه جلس في مكان مثل المسجون فلن تمر عليه الليلة إلا كأنها سنة، فهؤلاء في يوم القيامة لا يمر عليهم اليوم بسهولة؛ لأنه ليس هناك شغل، ولا لعب، ولا أكل، ولا مباريات ولا تمشيات ولا وظائف؛ ليس هناك إلا عرصات حارة، وشمس تدنو من الرءوس تغلي منها أدمغة العباد، والقلوب فارغة، والأنظار شاخصة، والأهوال هائلة، وهم وقوف ينتظرون فصل القضاء، فيأتون إلى الأنبياء يطلبون منهم أن يشفعوا لهم، فكل نبي يقول: نفسي نفسي، لا أسألك اليوم إلا نفسي! اذهبوا إلى غيري.
ونحن الآن -ولله المثل الأعلى- إذا كان المدير غضبان وأراد رجل أن يقضي حاجةً من عند المدير، فإنه يختار أولاً لقضاء هذه الحاجة أحب الناس إلى المدير، يقول: يا فلان! أنا أريد حاجة وأريد منك أن تدخل معي إلى المدير، أو تيسرها عن طريقك، فالمدير لا يرد لك طلباً، فهذا الوسيط سواء كان موظفاً أو قريباً لهذا المسئول لا يأتي المدير إلا في أحسن أحواله النفسية، إذا جاء إلى السكرتير قال: لابد أن أدخل إلى المدير، ماذا يقول له السكرتير؟ يقول: لا.
أرجوك لا تأتي اليوم اذهب فالمسألة خطيرة المدير غضبان إلى أبعد درجة؛ إذا دخلت عليه فإنه سيصرخ في وجهك؛ فلا يمكن أن يدخل الإنسان، لكن إذا جاءه ودخل عليه وقال له: كيف الأجواء؟ قال: -أربعة وعشرون قيراطاً- المدير مبسوط! زار اليوم جميع المكاتب ورأى ما يسره، ورأى العمل يسير في الخط الصحيح، فهو مبسوط! ادخل الآن اطلب تجد فربنا يوم القيامة وله المثل الأعلى يغضب، ومن غضبه أنه يدمر الكون كله: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الأنفطار:1 - 4].
ويقول الله عز وجل: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير:1 - 7].
أحداث هائلة جداً! تهز القلوب! وهذه تكون كلها يوم القيامة، فالقضية ليست قضية عادية، فيوم القيامة تكون الدنيا كلها على غير الوضع الأول: القبور بعثرت، والناس حشرت، والأمور كلها في غير وضعها الطبيعي، والله عز وجل قد أذن بالجزاء -أذن بفصل القضاء- فلا يوجد أحد يستطيع أن يأتي إلى الله ليسأله الشفاعة، وكل إنسان يقول: نفسي نفسي: لا أسألك اليوم إلا نفسي، ففي هذه اللحظات يأتون إلى نوح فيقول: إن لي دعوة وقد استنفذتها ودعوت على قومي، وقلت: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26] وانتهت دعوتي، ثم يأتون إلى إبراهيم عليه السلام، فيقولون له: يا إبراهيم: أنت خليل الله عز وجل وأنت أبو الأنبياء اشفع لنا إلى ربنا، فيقول: إني قد كذبت ثلاث كذبات، وإن ربي قد غضب اليوم غضباً لا أستطيع على مواجهته.
أتدرون ما كذبات إبراهيم عليه السلام؟ يقول المفسرون: إن كذبته التي ظنها كذبة هي في الحقيقة ليست بكذبة، لكن موازين الأنبياء ومقاييسهم حساسة إلى أبعد الدرجات.
قال العلماء: الأولى لما خرجوا في يوم عيدهم ليذبحوا لأصنامهم ولآلهتهم، قالوا له: هيا معنا، هيا يا إبراهيم، ماذا قال؟ قال: إني سقيم؛ يقول: أنا مريض اليوم ولا أستطيع أن أخرج، وحق له أن يكون مريضاً! وقد كان مريضاً، أي: ذو كبدٍ مقروحة على الدين؛ لأنهم كانوا يعبدون غير الله، ففي قلبه لوعة وحرقة، وهذا شأن المؤمن الذي يتألم ويتقطع قلبه حينما يرى حدود الله تنتهك، وشريعة الله لا تحكم، وفرائض الله لا تؤتى، إنه يتقطع ويذوب قلبه في جوفه كما يذوب الملح في الماء، أما صاحب الإحساس البارد، والدم -والعياذ بالله- المتجمد؛ فإنه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ولا يتمعر وجهه في الله عز وجل -لا يغار ولا يغضب لله- هذا قلبه متقطع، وقال: إني مريض في قلبي، أنا مقروح في كبدي! أنا لا أستطيع أن أخرج معكم في عيدكم، فظنها كذبة صلوات الله وسلامه عليه.
والثانية: أنه لما قدم إلى مصر وكانت معه زوجته سارة؛ وكانت امرأة ذات جمال، وقد عُرف ملك مصر بأنه رجل شهوانيٌُ خبيث يحب النساء، فلما أخبر عن زوجة إبراهيم طلبها من أجل -والعياذ بالله- أن يفعل بها الفاحشة، فلما جيء بها سأل إبراهيم، قال: ما هي لك؟ فكان إبراهيم ذكي: أي: لو قال: زوجتي لقتله وأخذها، لكن قال له: أختي؛ وهو يعني أنها أخته في الإسلام، إذ ليس على وجه الأرض مسلم إلا هي وهو، فقال: هاتها.
نريد أن نأخذها طبعاً يستطيع أن يأخذ أخت الشخص لكن لا يستطيع أن يأخذ زوجته، فأخذها وأُمر بإبراهيم إلى السجن، فبقي في قلب إبراهيم ألم شديد على زوجته وغيرة عظيمة على عرضه، ولكن الله حفظه؛ لأنه نبي، فكشف له الحجب بينه وبينها، فكان في السجن وهو يتابع حركاتها وينظر إليها في كل حركة، فلما أُخذت وأُدخلت إلى غرفة النمرود أراد أن يمد يده عليها، فكلما مد يده صلبه الله وجعله كالحديدة الواقفة، فإذا رجع عنها عادت له الحياة، فإذا مد يده تصلب، وإبراهيم يرصد الموقف وهو في السجن، ينظر العملية ليطمئن قلبه ويعلم أن الله عز وجل حفظه في عرضه، وبعد أن مارس التجربة أكثر من مرة، قال: هذه جنية أخرجوها؛ فجاءوا وأخرجوها من عنده، ورجعت إليه.
هذا إبراهيم، يقول: لا أستطيع إني قد كذبت! اذهبوا إلى غيري.
فيأتون إلى موسى ويقولون: أنت كليم الله فيقول: إني قد قتلت نفساً بغير حق، وإني لا أستطيع، فيقول: اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون إلى عيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فيقول: اذهبوا إلى محمد.
ولا يذكر عيسى ذنباً، هكذا في الحديث: ما ذكر ذنباً، لكن قال: اذهبوا إلى محمد.
قال: (فيأتونني -صلوات الله وسلامه عليه- فأسجد تحت العرش وأثني على الله، ويفتح الله عليَّ من المحامد ما لم أكن أعرف، فيقال لي: ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: أمتي أمتي أمتي) يشفع صلوات الله وسلامه عليه لأمته، فالذي يريد أن يكون من أهل شفاعته هو من الذين أنعم الله عليهم، قال عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:69] النبيين: هذه أعلى درجات البشر، الصديقين: الدرجة الثانية بعد البشر وليسوا بأنبياء؛ لكنهم أقوام اصطفوا وتم اختيارهم، وهم: أتباع الرسل الذين صدقوه، مثل: عيسى، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وبعدها: {وَالشُّهَدَاءِ} [النساء:69] الشهداء ولو كانوا ما عاصروا الأنبياء، فإنهم في المنزلة الثالثة، وبعدها: {وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69] ماذا بقي بعد هؤلاء الأربعة؟! لم يبق إلا العصاة والمجرمون واللوطة والزناة والسكارى والقتلة والمرابون -والعياذ بالله- وعاقو الوالدين المهم فاعل كل جريمة بقي بعد هؤلاء الأربعة.