سورة الفاتحة هي الشاملة الجامعة الشافية الكافية التي تكفي عن القرآن كله ولا يكفي القرآن كله عنها، فلو أن إنساناً صلى وبدأ بسورة البقرة وختم بسورة الناس ولم يقرأ الفاتحة لكانت صلاته باطلة وغير صحيحة، ولو أن إنساناً افتتح بسورة الفاتحة فقط ولم يقرأ بعدها شيئاً من القرآن لكانت صلاته صحيحة، فالفاتحة تُغني عن القرآن ولا يغني عنها القرآن كله، يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87] فذكرها الله عز وجل مقدمة لوحدها، وامتنَّ بها على رسوله صلى الله عليه وسلم، والقرآن العظيم أيضاً آتاه الله محمداً صلى الله عليه وسلم.
في كل ركعة من ركعات الصلاة وفي كل آية من سور الفاتحة وأنت تناجي ربك، تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] كما جاء في الحديث: (قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله عز وجل: حمدني عبدي، فإذا قال العبد: الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل: مجدني عبدي، فإذا قال العبد: مالك يوم الدين، قال الله عز وجل: عظمني عبدي -هذه ثلاث لله، وبقي أربع من السبع- قال: فإذا قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله عز وجل: هذه بيني وبين عبدي) هذه مقسومة، فمنه العبادة ومني الإعانة، وفي قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، تقديم المفعول على الفعل وهو يفيد الاختصاص، ما قال: نستعينك، ولا قال: نعبدك، وإنما قال: إياك؛ أي: نختصك يا رب لوحدك عمن سواك بالعبادة، ونختصك أيضاً بالاستعانة فلا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك، فيقول الله عز وجل: (هذه بيني وبين عبدي فمنه العبادة ومني الإعانة) فوالله لولا أن الله أعانك على العبادة ما عبدته.
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
والله عز وجل يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] ومن لوازم العبادة أن تطلب من الله عز وجل كل حوائجك وجميع شئونك، وأعظم حاجة لك وأعظم شأن أن تفوز به في الدنيا والآخرة: أن تطلب منه أن يعينك على العبادة كما تطلب منه أن يعينك على الرزق وأمور الحياة، واطلبه في كل حين ووقت على أن يعينك على عبادته، فتقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فيقول الله: (هذه بيني وبين عبدي).
(فإذا قال العبد: اهدنا الصراط المستقيم) أي: دلنا وأرشدنا وأقمنا على الصراط المستقيم، وكأن سائلاً يقول: وأي صراط تعنون؟ وأي طريق تريدون؟ إنها طرق، وشعاب، وفجاج، ولكن هناك طريقاً واضحاً؛ طريقاً أبلج ليله كنهاره لا يزيغ عنه إلا هالك: عليه الأعلام والمعالم واللوحات الإرشادية، فلا يمكن أن يضل إنسان سار بهذا الطريق، ألا وهو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، كأن سائلاً يقول: أي طريق؟ فيقول الله عز وجل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أي صراط؟ {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] من هم الذين أنعم الله عليهم؟ هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحين؛ هؤلاء الذين أنعم الله عليهم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء:69] والنبيون لا شك أنهم صفوة أهل الأرض، فقد اختار الله عز وجل هؤلاء الأنبياء والرسل ليكونوا سفراء بينه وبين خلقه؛ فهم صفوة خلق الله، وهم -أيضاً- بينهم درجات في التفاوت، يقول الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] حتى الرسل فيهم تفاضل، وأفضلهم على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد ولد آدم، يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا صاحب اللواء يوم العرض ولا فخر، وأن صاحب الشفاعة العظمى يوم القيامة ولا فخر) صلوات الله وسلامه عليه صلاة دائمة متتابعة ما تتابع الليل.