إن سفرنا -أيها الإخوة- بدأ من ظهور آبائنا، وانتقل إلى بطون أرحام أمهاتنا، ثم بعد ذلك بدأت الرحلة التي ندركها ونعيشها، وعليها مدار التكليف، وبها الفوز والفلاح، أو الخسار والهلاك؛ من الخروج من بطون الأمهات، ويكمل ذلك عند جريان قلم التكليف بالبلوغ، فإذا بلغ الإنسان فقد جرى عليه قلم التكليف، وأصبح في سفر يحاسب على دقيقه وجليله، ثم يمضي هذا العمر سنوات تقل أو تكثر إلا أن الجميع فيها مسافر، وكل سيئول إلى مقر، لكنه ليس لإقامة، بل هو زيارة، وهي دار البرزخ، قال الله جل وعلا: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2]، فلما ذكر المقابر مع أنها الغاية والمنتهى عند كثير من الناس، لم يجعلها دار إقامة، بل جعلها دار زيارة، ثم هذه الزيارة هل هي طويلة أو قصيرة؟ هي على المؤمن من أقصر ما يكون، وكذلك الكافر لا تطول عليه؛ لأنه يرجو أن تطول وهي خلاف ذلك، فهو يقول: رب! لا تقم الساعة، رب! لا تقم الساعة، ثم يبعث الناس من قبورهم، ويقومون لرب العالمين على هيئتهم يوم خرجوا إلى دار التكليف: حفاة عراة غرلاً، ثم بعد ذلك يحشرون في محشر عظيم وموقف مهول، فيه من الأهوال والفظائع ما تشيب له رءوس الولدان، كما قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]، هذا هو سبب الذهول والاضطراب، فيكون الناس على هيئة السكارى في هذه الدنيا، ومن رأى السكران يعرف حاله واضطرابه، هذه هي حال الناس في ذلك الوقت، والذي جعل هذه الحال على هذه الصفة -وهي حال عامة للجميع- هو أن عذاب الله جل وعلا في ذلك اليوم، وما أعده لمن خالف أمره؛ عظيم تذهل له العقول، وتضطرب له القلوب، وتهتز له النفوس، ويستوجب أن يثبت الإنسان نفسه في هذه الدنيا بالعمل الصالح الذي يدفع عنه أهوال ذلك اليوم، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم - أيها الإخوة - من الآمنين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين يثبتون على الحق والهدى في هذه الدار وفي الآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.