أيها الإخوة الكرام! درسنا إن شاء الله وتعالى سيكون في أول أحد من أول كل شهر بإذن الله تعالى، وكما علمتم أننا سنتناول هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وموضوع هذا الدرس هو نظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم للدنيا، وقد انتخبت لبيان ذلك حديثاً من صحيح الإمام البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه الله عنه قال فيه: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي-والمنكب هو مجمع الكتف مع العضد - أخذ رسول صلى الله عليه وسلم بمنكب ابن عمر، لكن قبل أن نتم الحديث نحب أن نقف عند هذه اللفتة النبوية منه صلى الله عليه وسلم، التي تنم وتدل على تواضع جم منه صلى الله عليه وسلم، وتدل أيضاً على شفقة ورحمة، وتدل أيضاً على نصح تام، ورغبة في إيصال الخير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خص ابن عمر الشاب الحدث الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أوائل العشرين أو لعله لم يبلغ العشرين، فإنه في غزوة الخندق كان عمره إما خمس عشرة سنة أو أربع عشرة سنة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لفت نظر هذا الشاب الذي في مقتبل عمره، وفي أوائل طريق حياته، إلى أمر عظيم ينشطه به على ما يستقبل من بقية العمر، ويذكره بأهمية الجد والاجتهاد في استباق الأوقات قبل فواتها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ابن عمر في هذه الوصية الجامعة، التي هي في الحقيقة ترجمة لهذه الدنيا: (كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل)، كلمتان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما هذا الشاب: (كن في الدنيا) أي: ليكن شأنك في هذه الدنيا، في هذا المعاش، في هذه الحياة، بين أحد أمرين: الأمر الأول: (كأنك غريب)، والثاني (أو عابر سبيل)، وكلاهما يجمعه معنى واحد ألا وهو السفر، فإن الغريب مسافر، وعابر السبيل مسافر، ومجمل الحديث يدل على أنه ينبغي لكل مؤمن، ولكل إنسان أن يحقق هذا المعنى في حياته، وهو الاستشعار بأنه في سفر، كم الذين غفلوا عن هذا الأمر؟ أكثرنا يظن أنه في دار إقامة، في دار قرار، في دار بقاء لا زوال لها إلا بعد آجال وأعمار، ثم يحدث الله ما يشاء مما يجري ويكون، لكن الأمر أقرب من ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوجه هذه الوصية لشيخ كهل قارب القبر، بل وجهها لشاب صغير في أول عمره، وقد يكون في أوائل السنين بعد البلوغ، أو يكون قد بلغ العشرين، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل)، والجامع لهما -كما ذكرنا- هو معنى السفر، فما هي حال المسافر؟ حال المسافر جد في طريقه، واجتهاد في قطع المسافة لبلوغ مراده، وتحصيل مقصوده، هذه هي حال المسافر؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب)، هذه هي المرحلة الأولى، وهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه كل إنسان.
المرحلة الثانية: مرحلة الجد وانتهاء الاجتهاد في تحصيل المقصود، وهي أن يكون الإنسان عابر سبيل، فإن الغريب قد يشتغل في غربته ببعض ما يشتغل به المقيمون من أخذ مسكن أو مشرب أو مأكل أو غير ذلك، لكنه لا يشتغل اشتغال الذي وطن نفسه على البقاء، فما زالت أحكام السفر عليه قائمة، ولا زال يمني نفسه ويعدها بالارتحال وبلوغ المنزل والمقصد الذي يسعى إلى بلوغه وقصده، وهو غايته، وهي الدار الآخرة.